السودان: هدية غالية للعيد

12-11-2009 تحقيقات

لم ير الشاب يوسف محمد أمه منذ 11 سنة خلت إذ فر من النزاع الدائر في دارفور وعبر الحدود إلى تشاد في حين بقيت أمه داخل السودان. والتأم شمل الأم بابنها من جديد بفضل ما أبداه هذا الأخير من إصرار شديد وبفضل المساعدة التي تلقاها من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

 
    ©ICRC      
   
    الشاب يوسف محمد في مقر بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالخرطوم.      
       


   
    ©ICRC      
   
    الخرطوم. يوسف (الثاني من جهة اليمين) مع أمه والعاملين في اللجنة الدولية الذين ساعدوا على لم شملهما.      
       


   
    ©ICRC      
   
    مقر بعثة اللجنة الدولية, الخرطوم. يوسف مع أمه وقريبته الصغيرة.      
       

يرى يوسف محمود الذي انغصل عن أمه لمدة إحدى عشرة سنة, أنه ما كان له أن يلتقي بأمه في توقيت أفضل من التوقيت الذي يصادف نهاية شهر رمضان المعظم, أي قبل أيام معدودة من الاحتفال بعيد الفطر المبارك.

وتغمر يوسف ذو السبعة عشر ربيعاً مشاعر الفرح بالتحول الذي طرأ على حياته خلال الأيام القليلة الماضية. فبعد سيل عارم من المكالمات الهاتفية والإجراءات الإدارية, ها هو يتمكن في نهاية المطاف من امتطاء طائرة اللجنة الدولية للصليب الأحمر المنطلقة من " الفاشر " , في شمال دارفور, باتجاه الخرطوم ليجتمع بأمه التي طال غيابه عنها.

مرت إحدى عشرة سنة على فراق الأم وابنها. وقد انتقلت الأم بعد طلاقها من والد يوسف في عام 1998 لتعيش مع أحد أبنائها في " الجزيرة " بشمال السودان, في حين بقي يوسف وأبوه وأخ أصغر له في دارفور. وعند اندلاع أزمة دارفور في عام 2003, عبر يوسف الذي كان يبلغ حينها 10 سنوات من العمر الحدود مع أبيه وأخيه ليلتحقوا بغيرهم من أهالي دارفور في مخيم للاجئين في " أبيشي " على الحدود بين تشاد والسودان.

  أيام البحث الطويلة  

تقول السيدة " آن شاساين " , مندوبة اللجنة الدولية في " الفاشر " , والتي تابعت قصة هذا الفتى وسعت إلى مساعدته كي يضع حداً لمحنته: " استحوذ على ذهن هذا الشاب هاجس رؤية أمه مرة أخرى " . وقد دفعه زواج أبيه الثاني إلى أن يعجل بتنفيذ قرار مغادرة مخيم اللاجئين والعودة إلى السودان بحثاً عن أمه.

وحين علم والد يوسف بالخطة التي ينوي ابنه الإقدام عليها, أعرب عن خشيته عليه وهو يراه مقبلاً على مثل هذه المخاطر الكبيرة, ولكنه لم يستطع ثنيه عن قراره. وشرع يوسف بمفرده في رحلة العودة إلى السودان في تشرين الأول/أكتوبر 2008 سيراً على الأقدام أحياناً, وراكباً أحياناً أخرى مع من يوافق على ن قله. ووصل في نهاية تشرين الأول/أكتوبر إلى مدينة " نيالا " في جنوب دارفور ليقرر بعدها مواصلة رحلته نحو الشمال.

وعثر في مدينة " شانغيل توبايا " على الطريق الذي يوصله إلى مركز تابع " للعملية المختلطة " للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور, ووجد فيه من يدله على السيد " محمد عيسى " , المتطوع مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر, فقام بإسكانه في بيته لبضعة أسابيع قبل أن يرافقه إلى مقر البعثة الفرعية للجنة الدولية بمدينة " الفاشر " في نهاية شهر تموز/يوليه 2009 كي يسجل نفسه ضمن الأشخاص الذين يسعون إلى لم شملهم بأحد أفراد عائلتهم.

وسلم يوسف في " الفاشر " إلى فريق اللجنة الدولية آخر عنوان معروف لديه عن أمه من أجل البحث عنها وتحديد مكان إقامتها. ويقول السيد " عبد الفراج محمد " , المسؤول في خدمة اللجنة الدولية للبحث عن المفقودين في الخرطوم: " سافرت من أجل البحث عن والدة يوسف إلى " المناقل " بولاية " الجزيرة " , وهي منطقة تقع على بعد يزيد عن 300 كيلومتر جنوب غرب الخرطوم, " . ويضيف قائلاً: " فكتبت له على الفور رسالة من رسائل الصليب الأحمر ووقعت على موافقة للم الشمل من أجل إعادة ابنها " .

ويقول السيد " خالد حسن " , وهو مسؤول آخر في خدمة اللجنة الدولية للبحث عن المفقودين, كان يتابع هذه القضية: " ولقد أعقب ذلك تبادل لرسائل الصليب الأحمر بين الأم وابنها " .

وكان أعضاء فريق اللجنة الدولية يعملون في هذه الأثناء بجد من أجل إيجاد خطة أفضل. ولم يمض وقت طويل حتى زفوا إلى يوسف أعظم البشائر: فهم لم يوفقوا فقط في تحديد مكان إقامة أمه وإحدى قريباته, بل عملوا أيضاً على تنظيم سفرهم جميعاً عن طريق الجو ليلتقوا في الخرطوم.

وتسارعت الأحداث بعد ذلك إلى الحد الذي جعلها تبدو وكأنها مصحوبة برعاية إلهية جاءت معها لتقدم ليوسف هدية العيد متمثلة في أمه وهي تقف أمامه بشحمها ولحمها.

ويقول السيد " تيسير حسون " , المسؤول في خدمة اللجنة الدولية للبحث عن المفقودين في " الفاشر " : " لقد مر هذا الفتى بأوقات صعبة " , " ولكنه شاهد أيضاً الوجه الحقيقي لروح التضامن ا لتي يتميز بها السودانيون. عاش في دارفور بدون نقود, ولكنه كان يحصل دائماً على الطعام والمأوى. وكان الناس يغمرونه بعطفهم دون أن تكون لهم سابق معرفة به. "

وتذكر السيدة " آن شاساين " أن يوسف قد تمكن يوم 2 أيلول/سبتمبر من الحديث مع أمه لأول مرة عن طريق الهاتف, وكان ذلك يوم قدومه إلى مقر اللجنة الدولية في " الفاشر " للتوقيع على موافقة لم الشمل. وتضيف قائلة: " وهو لم يفتر منذ هذه اللحظة عن الاتصال بي لمعرفة موعد سفره للقاء أمه, " . وتستطرد قائلة: " حينما تركته على متن طائرة اللجنة الدولية, كان يبدو قلقاً ومستبقاً للأحداث وقد تملكته فكرة واحدة تذكره بأنه سيلتقي بأمه أخيراً. "

  وأخيراً التئم شمل الأم وابنها  

كان اللقاء الذي جمع يوسف وأمه وقريبته في 17 أيلول/سبتمبر بمقر بعثة اللجنة الدولية في الخرطوم حدثاً امتزجت فيه مشاعر السعادة والامتنان والحزن والفرح. وقد ولد هذا المشهد لدى فريق اللجنة الدولية شعوراً بالرضا وبقيمة ما أنجزوه. وكان فريق اللجنة الدولية المعني بالبحث عن المفقودين قد بذل قبل أسبوع من ذلك كل ما في وسعه لضمان أن يحتفل أفراد العائلة بالعيد سوياً. وبالنسبة إلى يوسف, فهو لا يزال يشعر وكأنه في حلم ولم يستوعب بعد الواقع الجديد الذي هو فيه.

وكانت أمه في غاية السعادة والفرح وهي تقول: " لقد مضت علي إحدى عشرة سنة لم أره فيها " , " وهي فترة طويلة بل طويلة جداً بالنسبة لأم لم تر ابنها كل هذا الوقت. وأنا فرحة جداً بهذا. "

وكان يوسف قد استغل وقته داخل المخيم أحسن استغلال. وقال حينما كان كان في انتظار أمه بمكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الخرطوم: " كنت أذهب إلى المدرسة, وأكملت فيها السنة السابعة " . وأضاف قائلاً: " آمل أن أنهي ما تبقى لي من سنوات المدرسة وأن أدرس الإنجليزية في إحدى جامعات الخرطوم أو جوبا. " وكان يوسف قد استفاد من فرصة عمل أبيه مع إحدى وكالات الإغاثة الموجودة في المخيم كي يتعلم الإنجليزية, وهو يتحدثها الآن بطلاقة.

وتساعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أفراد العائلات الذين انفصلوا عن بعضهم بسبب النزاعات ع لى إعادة الروابط بينهم, ويتم ذلك عادة من خلال رسائل الصليب الأحمر التي تتضمن أخباراً شخصية أو عائلية ويجري توزيعها في مختلف أنحاء البلد بواسطة شبكة من المتطوعين في جمعية الهلال الأحمر السوداني. وتسعى اللجنة الدولية كذلك إلى تحديد أماكن وجود أفراد العائلات المفقودين, والعمل, كلما كان ذلك ممكناً, على لم شمل الأطفال وغيرهم من الأشخاص المستضعفين – مثل المسنين أو المعوقين- بأحبائهم وذويهم.