نشأة الحماية القانونية للممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح ضمن إطار القانون الدولي الإنساني التعاقدي والعرفي

14-11-2004 مقال، بقلم فرنسوا بونيون

اجتماع الذكرى الخمسين لاتفاقية لاهاي لعام 1954

 

    " لما كانت الحروب تنشأ في عقول البشر فإن وسائل الدفاع عن السلم يجب أن تسمو في عقولهم" ، يعلن دستور منظمة اليونسكو.     " 
 

إن الثقافة التي من المفروض أن توحد بين البشر رغم اختلافهم وتساهم بالتالي في تعزيز وسائل الدفاع عن السلم هي أيضا ما يفرق بينهم للأسف غالباً. وفي هذه الظروف ليس من الغريب أن تفضي الحرب إلى تدمير الآثار وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي تعد من بين أكبر الإبداعات النفيسة للعقل الإنساني. 

يحدث البعض من هذا الدمار عرضاً. وفي حالات أخرى برَّرت الأطراف المتحاربة تدمير الممتلكات الثقافية بحجة الضرورات العسكرية. وعلى هذا النحو فسرت الولايات المتحدة تدمير دير " مونتي كاسينو " الشهير الذي تحصن فيه الألمان وأوقفوا مسيرة الحلفاء صوب روما منه.

غير أن أعمال الدمار تكون متعمدة في معظم الحالات. فتدمير الآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية يقصد إلى القضاء على هوية الخصم وتاريخه وثقافته وإيمانه، بغية محو كل أثر لوجوده وحتى لكينونته.

 كان " كاتون القديم " يكرر دائما قوله: " يجب تدمير قرطاجة "   بيير دوكري، " معاملة أسرى الحرب في بلاد الإغريق القديمة، من الأصول حتى الفتح الروماني " ، باريس، 1968ن صـ295-300 . فدمرت هذه المدينة الفخورة. لم ينج لا أثر تذكاري ولا معبد ولا ضريح. وجرت العادة على ذرِّ الملح على الأطلال حتى أن العشب لم ينبت فيها من جديد. وحتى اليوم عندما يتفقد المرء أطلال هذه المدينة العتيقة التي حكمت نصف حوض البحر الأبيض المتوسط وكانت منافسة لروما، يصاب بالذهول لبساطة الأطلال التي تشهد على وحشية الدمار.

وكان هذا أيضاً مصير مدينة " وارسو " في نهاية الحرب العالمية الثانية. لم ينج لا أثر تذكاري ولا كنيسة ولا مبنى. وبإمكاننا أن نسوق أمثلة كثيرة حديثة العهد. فكلنا يتذكر تدمير عدد لا يحصى من الكنائس والمساجد والأديرة وحتى المقابر أثناء النزاعات الأخيرة في يوغوسلافيا السابقة. والجميع يتذكر تدمير تمثالي بوذا في " باميان " في ربيع عام 2001. وفي كل حالة من هذه الحالات لم تكن الآثار التذكارية هي وحدها المقصودة وإنما أيضاً وبالذات الضمير الجماعي للشعوب.

وفي حقيقة الأمر، فإن التدمير المتعمد للآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية هو مظهر من مظاهر الانزلاق إلى هاوية الحرب الشاملة، وهو في بعض الأحيان يمثل الوجه الآخر للإبادة الجماعية. 

لكن يتبين لنا من التاريخ أيضاً أن هناك تدابير اتخذت منذ الحقب الغابرة لضمان عدم الاعتداء على أماكن العبادة والأعمال الفنية. هكذا، وفي بلاد الإغريق القديمة كان يعترف بالمعابد الإغريقية الكبرى مثل " الأولمبي " و " ديلوس " و " ديلفيس " و " دودون " بوصفها مقدسة ولا ينبغي الاعتداء على حرمتها. فكان من المحرم ارتكاب أعمال عنف بداخلها كما كان يجوز للأعداء المهزومين أن يلجئوا إليها طلباً للملاذ هنري كورزييه، " دراسة عن نشأة القانون الإنساني " ، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 389، ديسمبر/ كانون الأول 1951، صـ370-389، والعدد 391، يوليو/ تموز 1951، صـ558-578، والعدد 396، ديسمبر/ كانون الأول 1952 صـ937-968 و الصفحات 377 و562.. ومن هنا نشأ قانون اللجوء الذي اعتمدناه اليوم. وفي أوروبا خلال القرون الوسطى كانت قواعد ا لفروسية تحمي الكنائس والأديرة. كما أن الإسلام يتضمن

الكثير من المبادئ التي تحمي أماكن العبادة المسيحية واليهودية وتحمي الأديرة. وبوسعنا أن نذكر توصيات أول الخلفاء والصحابة وصهر الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق (632-642 ميلادية) الذي خاطب جنوده عند فتح سوريا والعراق قائلاً: " كلما تقدمتم ستجدون أناساً تفرغوا للعبادة في أديرتهم. اتركوهم وشأنهم ، لا تقتلوهم ولا تدمروا أديرتهم. النص الأصلي من كتاب السير للشيباني، بتعليق من أ. المنجد، المجلد الأول، معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، القاهرة، 1971، الصفحة 43 وما يليها.

وجاء في كتاب الضريبة العقارية لأبي يوسف يعقوب بشأن المسيحيين في نجران : " إن حماية الله سبحانه وتعالى وضمانة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تشمل نجران وما حولها، كما تشمل ممتلكاتهم وأشخاصهم وعبادتهم غائبهم وحاضرهم ومعابدهم وما من صغيرة وكبيرة توجد بحوزتهم. "  أبو يوسف يعقوب، كتاب الضريبة العقارية، باريس، " غويتنر " ، الصفحة 74 (ورد في كتاب عامر الزمالي، بعنوان المقاتلون وأسرى الحرب في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الإنساني، باريس، دار النشر، " أ. بيدون " ، 1997، الصفحة 109).

غير أن هذه القواعد القديمة المستوحاة من الدين عموماً كانت تحظى باحترام الشعوب التي كانت تشترك في نفس الثقافة وكانت تعبد نفس الآلهة. وفي حالة الحرب بين شعوب تنتمي إلى ثقافات مختلفة غالباً ما لم يكن يعترف بهذه القواعد. ولا يخفى على أحد منا الدمار الذي خلفته الحروب الصليبية وحروب الأديان.

والحقيقة أن الاهتمام لم ينصب على تبني قواعد تحمي الممتلكات الثقافية في حالة الحرب إلا في حقبة حديثة العهد نسبياً.

ففي البداية تم ذلك من خلال المبدأ الأساسي القائل بالتمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية. ويرجع الفضل في ذلك إلى " جان جاك روسو " الذي كان له السبق في طرح مبدأ هذا التمييز بوضوح، إذ قال:

" إن الحرب ليست علاقة بين شخص وآخر وإنما بين دولة وأخرى، يكون فيها الأفراد أعداءً بالصدفة، ليس كأشخاص أو مواطنين وإنما كجنود، ليس كأفراد الوطن وإنما كمدافعين عنه. "   " جان جاك رو سو " ، " في العقد الاجتماعي " ، الكتاب الأول، الفصل الرابع، باريس، دار النشر " غارنييه " ، 1962، الصفحات 240-241 (الطبعة الأولى، 1762).

فمبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية يشمل جميع قوانين الحرب وأعرافها، لا سيما القواعد المتعلقة بسير العمليات العدائية.

وهكذا فإن اتفاقيتي لاهاي لعام 1899 و1907 تحرمان " تدمير ملكية العدو أو حجزها، ما عدا في الحالات التي تدعو ضرورات الحرب إلى ذلك. "  المادة 23 (ز) من لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية، ملحق الاتفاقية المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية المؤرخة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907 في لاهاي.

" يحظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والبيوت والمباني المجردة من وسائل الدفاع، بأي وسيلة كانت. "   المادة 25 من لائحة لاهاي.

" يحظر نهب مدينة أو بلدة حتى وإن كانت محط هجوم. "  المادة 28 من لائحة لاهاي.

وقد تم التأكيد على هذه القواعد وتطويرها مجدداً بسن قواعد الحرب الجوية في 19 فبراير/شباط عام قواعد الحرب الجوية التي حددتها لجنة من القانونيين مكلفة ببحث مسألة تنقيح قوانين الحرب ووضع تقرير عن ذلك، أثناء اجتماعها في لاهاي في ديسمبر/ كانون الأول 1922 إلى فبراير/ شباط 1923، المجلة العامة للقانون الدولي العام، المجلد 30، 1923، الوثائق، صـ1-9.1923، التي اعتمدتها لجنة القانونيين الذين فوضهم مؤتمر الحد من التسلح؛ ولم يصادق أحد على هذه القواعد للأسف. وتم التأكيد مجدداً على القواعد التي تنظم سير العمليات الحربية وحماية الأشخاص والممتلكات المدنية من آثار هذه العمليات وطورت خاصة باعتماد البروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف في 8 يونيو/حزيران عام 1977. المواد 35-67 من البروتوكول الأول، والمواد 13-17 من البروتوكول الثاني. ومن المسلم به عموماً أن معظم الأحكام الواردة في البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المتعلقة بسير العمليات العسكرية تعبر عن قواعد عرفية تنطبق بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانو ا ملتزمين بهذا البروتوكول أم لا. ومن المسلم به أيضاً أن هذه القواعد تسري على جميع النزاعات المسلحة سواء الدولية أو غير الدولية. 

والممتلكات الثقافية بصفتها ممتلكات مدنية هي محمية بموجب جميع هذه الأحكام بوضوح. ويحظر استخدامها لأغراض عسكرية كما يحظر مهاجمتها عن قصد. وينبغي توخي الحيطة أثناء الهجوم والدفاع لتفادي تعريضها للخطر. وأخيراً يحظر نهبها.

غير أن هذه الحماية العامة التي تسري على جميع الممتلكات المدنية لا تكفي اليوم لضمان حماية الممتلكات الثقافية التي هي جزء من تراث البشرية. وبحكم طبيعتها الخاصة وما تمثله بالنسبة للإنسانية فقد تقرر منحها حماية خاصة.

وكان " إيمير دي فاتيل " هو من طرح في القرن الثامن عشر أول مبدأ لاحترام المقدسات والقبور والأبنية الثقافية الأخرى. وبالفعل جاء في معاهدته الكبرى بعنوان " قانون الشعوب أو مبادئ القانون الطبيعي المنطبقة على الحكم وشؤون الدول والملوك " ما يلي: 

" مهما كان السبب في تخريب بلد ما يجب عدم الاعتداء على معالم العمارة التي هي شرف الإنسانية والتي لا تساهم قط في جعل العدو أكثر قوة : المعابد والقبور والمباني العمومية وجميع الأعمال التي تحظى بالاحترام بجمالها. فماذا نجني من تدميرها؟ إذ يغدو عدواً للبشرية ذلك الشخص الذي يحرمها بطيبة خاطر من هذه الآثار الفنية وهذه النماذج من الذوق. " " إيمير دي فاتيل " ، قانون الشعوب أو مبادىء القانون الطبيعي المنطبقة على الحكم وشؤون الدول والملوك، المجلد الثاني، الكتاب الثالث، الجزء التاسع، جنيف، معهد " هنري دونان " ، 1983، المجلد الثاني، الصفحة 139 (الطبعة الأولى، 1758).

وفي نهاية الحروب النابليونية، طالب الحلفاء بإعادة عدد لا يحصى من الأعمال الفنية التي نهبتها جيوش نابليون أثناء غزوها لمختلف البلدان، وبذلك أُقر مبدأ حصانة الأعمال الفنية من المصادرة والنهب.

تنص المادة 17 من إعلان بروكسل في 27 أغسطس/آب 1874 على أنه في حالة قصف مدينة أو مكان محصن أو قرية يج ري الدفاع عنها يجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة لعدم الاعتداء قدر الإمكان على الأماكن المخصصة للعبادة والفنون والعلوم.  ستانيسلاس إدوارد ناهليك " حماية الممتلكات الثقافية " , في الأبعاد الدولية للقانون الإنساني، باريس، اليونسكو ومكتبة بيدون وجنيف، معهد هنري دونان، صـ238-249 و صـ238 الذي يستشهد بمارتنز ، المجموعة الجديدة من المقالات، المجلد الثاني، صـ632. 

كما طرحت اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907 مبدأ حصانة الممتلكات الثقافية، حتى في حالة الحصار أو القصف:

" في حالات الحصار أو القصف يجب اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتفادي الهجوم، قدر المستطاع، على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التي يتم فيها جمع المرضى والجرحى، شريطة ألا تستخدم في الظروف السائدة آنذاك لأغراض عسكرية "  لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية، ملحق الاتفاقية المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية المؤرخة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907 في لاهاي، المادة 27.

.

وفي الأراضي المحتلة، تحرم الاتفاقية كل حجز أو تدمير أو إتلاف مقصود للمؤسسات المخصصة للعبادة والأعمال الخيرية والتعليم والفنون والعلوم حتى وإن كانت ملكاً للدولة  المادة 56

. إلا أن هذه الأحكام لم تمنع للأسف الكثير من أعمال التدمير التي تعرضت لها الممتلكات الثقافية أثناء الحرب العالمية الأولى و على نطاق أوسع بكثير في الحرب العالمية الثانية.

ولتلافي وقوع أعمال تدمير كهذه ، رأت الدول أنه من الضروري اعتماد اتفاقية خاصة لحماية الممتلكات الثقافية. ومن هنا جاءت نشأة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح في 14 مايو/أيار 1954، والتي سوف نحتفل بالذكرى الخمسين لإبرامها خلال بضعة أسابيع.

أخيرا وحيث أن جميع الدول ليست ملتزمة بهذه الاتفاقية فقد أدرج المؤتمر الدبلوماسي حول إعادة تأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني الذي يطبق على النزاعات المسلحة الذي عقد في جنيف من عام 1974 إلى عام 1977، في البروتوكولين الإضافيين مادة تتعلق بحماية الممتلكات الثقافية.

وفيما يلي نص المادة 53 من البروتوكول الأول :

" تحظر الأعمال التالية، وذلك دون الإخلال بأحكام اتفاقية لاهاي المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح المبرمة في 14 مايو/أيار 1954 وأحكام المواثيق الدولية الأخرى الخاصة بالموضوع:

(أ‌) ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب؛

(ب‌) استخدام مثل هذه الممتلكات في دعم المجهود الحربي؛

(ج) اتخاذ مثل هذه الممتلكات محلا للهجمات الانتقامية. " لا تشير هذه المادة إلى حظر نهب الممتلكات الثقافية. وليس في ذلك مفاجأة. الواقع أن البروتوكول الإضافي يكمل اتفاقيات جنيف. إلا أن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص بالفعل على حظر النهب. وينطبق هذا الحكم على جميع الممتلكات المدنية، بما فيها الممتلكات الثقافية.

وتنص المادة 16 من البروتوكول الثاني أيضاً على حظر ارتكاب أي عمل عدائي موجه ضد الممتلكات الثقافية واستخدامها لدعم المجهود الحربي.

ومن المسلم به عموماً أن هذه الأحكام تعكس القانون العرفي وأنها واجبة بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانوا ملتزمين بالبروتوكولين الإضافيين أم لا.

أخيراً، يعرف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في يوليو/تموز 1998 جرائم الحرب كما يلي

" ... تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية والآثار التاريخية (...) شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية " .  نظام المحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما يوم 17 يوليو/تموز 1998، المادة 8،2ب، و8، 2. يشمل الحظر الأعمال المرتكبة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 832، ديسمبر/كانون الأول 1998، الصفحتان 734 و737. 

إن هذا الاستعراض السريع للصكوك الرئيسية المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح يساعد على إبداء بعض الملاحظات.

في البداية وفيما يخص أسس الحماية تخضع الممتلكات الثقافية للحماية من جهة بحكم طابعها المدني ومن جهة أخرى باعتبارها جزءاً من التراث الثقافي أو الروحي للشعوب.

ومن ثم، فإنها تحظى بحماية مزدوجة :

v فهي محمية من جهة بصفتها ممتلكات مدنية وتسري عليها جميع الأحكام المتعلقة بحماية الممتلكات أو الأهداف المدنية ؛

v  ومن جهة أخرى تخضع لحماية خاصة بموجب الأحكام المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.

وليس هناك تناقض بين النوع الأول والثاني من الحماية بل إنهما متطابقان.

وفيما يتعلق بمصادر نظام الحماية يلاحظ أن المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني تبقيان صراحة على أحكام اتفاقية لاهاي المؤرخة في 14 مايو/أيار 1954. وبناء عليه ليس هناك أي تناقض وإنما هناك تكامل بين أحكام البروتوكولين وأحكام اتفاقية لاهاي.

وأخيراً على مستوى المبادئ، يتعين احترام الممتلكات الثقافية وحمايتها بوصفها هكذا، كجزء من التراث المشترك للإنسانية بغض النظر عن الثقافة التي تنتمي إليها. ومن ثم، فإن حماية هذه الممتلكات تسمو على الاختلافات الثقافية أو الوطنية أو الدينية.  " إن الأطراف السامية المتعاقدة (...) لاعتقادها أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب كان تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء ، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافية العالمية " ، هكذا أعلنت ديباجة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، 14 مايو/ أيار 1954

ومازال هناك سؤالان:

 • هل تعد حماية الممتلكات الثقافية جزءاً من القانون الدولي الإنساني، من جهة،
• هل للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر أهلية للاهتمام بهذه الحماية؟

ولنبدأ بالسؤال الأول: هل حماية الممتلكات الثقافية جزء من القانون الدولي الإنساني؟ ما من شك. الواقع أن تدمير الممتلكات القافية لا يستهدف فقط الممتلكات المقصودة. والحقيقة أن تدمير الممتلكات الثقافية يهدف دائما إلى تدمير الأشخاص المعرضين للهجوم. فالممتلكات وحدها لا تجتذب العمل العدائي.

بالعكس فحماية الممتلك ات الثقافية ليس المقصود منها هو حماية الآثار أو الأشياء المراد حمايتها فحسب وإنما ذاكرة الشعوب وضميرها الجماعي وهويتها، ولكن أيضاً ذاكرة وضمير وهوية كل فرد من الأفراد الذين يشكلونه. وفي الحقيقة، فإن وجودنا لا يخرج عن إطار أسرتنا والهيكل الاجتماعي الذي ننتمي إليه.

فغض النظر وتصور باريس دون كنيسة " نوتر دام " وأثينا دون " بارتينون " والجيزة دون الأهرام والقدس دون قبة الصخرة والمسجد الأقصى والهند دون تاج محل؛ أليس هذا بمثابة انتزاع جزء من هوية كل واحد منا؟

لا شك أن هذه الأحكام مستقاة من القانون الدولي الإنساني. بالإضافة إلى ذلك هناك أوجه تطابق عديدة بين اتفاقية عام 1954 واتفاقيات جنيف لعام 1949 مما لا يدع مجالاً للشك في تقاربها. وأخيراً فإن الالتزامات الأساسية لاتفاقية 1954 واردة في المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني.

ويقودنا هذا إلى السؤال الثاني: هل للصليب الأحمر والهلال الأحمر أهلية الاهتمام بالحماية؟

12

إن اتفاقية عام 1954 تسند مسؤولية تنفيذ أحكامها إلى القوى الحامية المكلفة بحماية مصالح أطراف النزاع وإلى منظمة اليونسكو  المواد 21، 22 و23 من اتفاقية عام 1954. فالاتفاقية لا تعهد بأي تفويض خاص إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر للسهر على احترام أحكامها. ولكن ما من شك أنه يتعين على اللجنة الدولية الإشراف على احترام المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني، كما يجب عليها السهر على احترام أية أحكام أخرى واردة في اتفاقيات جنيف أو البروتوكولين الإضافيين إليها.

بل وأبعد من ذلك، فإن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر برمتها هي المعنية بحماية الممتلكات الثقافية لأنها معنية بكل ما يتعلق بحماية ضحايا الحرب. ولهذا السبب اعتمد مجلس المندوبين عام 2001 قراراً هاماً حول هذا الموضوع  مجلس المندوبين، جنيف، 11-14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، " حماية الممتلكات الثقافية في حالة نز اع مسلح " ، وثيقة أعدها الصليب الأحمر البريطاني بالتعاون مع الصليب الأحمر الألماني بالتشاور مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، سبتمبر/ أيلول 2001؛ مجلس المندوبين، جنيف، 11-14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، قرار رقم 11، " حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح " المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 845، مارس/ آذار 2002، صـ284-285..

ولهذا أصاب الرأي أحد المعلقين عندما نشر واحدة من الدراسات الأولى المخصصة لاتفاقية جنيف لعام 1954 تحت عنوان مثير للذكريات هو " الصليب الأحمر للآثار التذكارية "   رينيه جون ويلهلم ، " الصليب الأحمر للآثار التذكارية " ، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 430، أكتوبر/ تشرين الأول 1954، صـ793-815.. 

   

الملاحظات

   

  1 بيير دوكري، " معاملة أسرى الحرب في بلاد الإغريق القديمة، من الأصول حتى الفتح الروماني " ، باريس، 1968ن صـ295-300

2 هنري كورزييه، " دراسة عن نشأة القانون الإنساني " ، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 389، ديسمبر/ كانون الأول 1951، صـ370-389، والعدد 391، يوليو/ تموز 1951، صـ558-578، والعدد 396، ديسمبر/ كانون الأول 1952 صـ937-968 و الصفحات 377 و562.

3 النص الأصلي من كتاب السير للشيباني، بتعليق من أ. المنجد، المجلد الأول، معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، القاهرة، 1971، الصفحة 43 وما يليها.

4 أبو يوسف يعقوب، كتاب الضريبة العقارية، باريس، " غويتنر " ، الصفحة 74 (ورد في كتاب عامر الزمالي، بعنوان المقاتلون وأسرى الحرب في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الإنساني، باريس، دار النشر، " أ. بيدون " ، 1997، الصفحة 109).

5  " جان جاك روسو " ، " في العقد الاجتماعي " ، الكتاب الأول، الفصل الرابع، باريس، دار النشر " غارنييه " ، 1962، الصفحات 240-241 (الطبعة الأولى، 1762).

6 المادة 23 (ز) من لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية، ملحق الاتفاقية المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية المؤرخة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907 في لاهاي.

 7 المادة 25 من لائحة لاهاي.

8  المادة 28 من لائحة لاهاي.

9 قواعد الحرب الجوية التي حددتها لجنة من القانونيين مكلفة ببحث مسألة تنقيح قوانين الحرب ووضع تقرير عن ذلك، أثناء اجتماعها في لاهاي في ديسمبر/ كانون الأول 1922 إلى فبراير/ شباط 1923، المجلة العامة للقانون الدولي العام، المجلد 30، 1923، الوثائق، صـ1-9.

10 المواد 35-67 من البروتوكول الأول، والمواد 13-17 من البروتوكول الثاني.

11 أوصت مجموعة الخبراء الحكوميين لحماية ضحايا الحرب المجتمعة في جنيف من 23-27 يناير/ كانون الثاني 1995 بدعوة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بإعداد تقرير حول القواعد العرفية للقانون الإنسانية واجبة التطبيق في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، بمعاونة خبراء في القانون الدولي الإنساني يمثلون مختلف المناطق الجغرافية والنظم القضائية. وقد دعم المؤتمر الدولي السادس والعشرون للصليب الأحمر والهلال الأحمر المنعقد في جنيف في ديسمبر/ كانون الأول 1995 هذه التوصية. وقد شارك حوالي خمسون خبيراً في تلك الدراسة عن طريق أبحاث واسعة النطاق بهدف التعرف على ممارسات الدول والأطراف المتحاربة أثناء النزاعات الدولية أو غير الدولية. وقد ركزت الأبحاث على ممارسات 48 دولة علاوة على 39 نزاعاً. وقد أوشك تقرير اللجنة الدولية على الانتهاء.

12 " إيمير دي فاتيل " ، قانون الشعوب أو مبادىء القانون الطبيعي المنطبقة على الحكم وشؤون الدول والملوك، المجلد الثاني، الكتاب الثالث، الجزء التاسع، جنيف، معهد " هنري دونان " ، 1983، المجلد الثاني، الصفحة 139 (الطبعة الأولى، 1758).

13 ستانيسلاس إدوارد ناهليك " حماية الممتلكات الثقافية " , في الأبعاد الدولية للقانون الإنساني، باريس، اليونسكو ومكتبة بيدون وجنيف، معهد هنري دونان، صـ238-249 و صـ238 الذي يستشهد بمارتنز ، المجموعة الجديدة من المقالات، المجلد الثاني، صـ632. 

14 لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية، ملحق الاتفاقية المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية المؤرخة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907 في لاهاي، المادة 27.

15 المادة 56

16 لا تشير هذه المادة إلى حظر نهب الممتلكات الثقافية. وليس في ذلك مفاجأة. الواقع أن البروتوكول الإضافي يكمل اتفاقيات جنيف. إلا أن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص بالفعل على حظر النهب. وينطبق هذا الحكم على جميع الممتلكات المدنية، بما فيها الممتلكات الثقافية.

17  نظام المحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما يوم 17 يوليو/تموز 1998، المادة 8،2ب، و8، 2. يشمل الحظر الأعمال المرتكبة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 832، ديسمبر/كانون الأول 1998، الصفحتان 734 و737. 

18 " إن الأطراف السامية المتعاقدة (...) لاعتقادها أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب كان تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء ، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافية العالمية " ، هكذا أعلنت ديباجة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، 14 مايو/ أيار 1954

19 المواد 21، 22 و23 من اتفاقية عام 1954

20 مجلس المندوبين، جنيف، 11-14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، " حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح " ، وثيقة أعدها الصليب الأحمر البريطاني بالتعاون مع الصليب الأحمر الألماني بالتشاور مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، سبتمبر/ أيلول 2001؛ مجلس المندوبين، جنيف، 11-14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، قرار رقم 11، " حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح " المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 845، مارس/ آذار 2002، صـ284-285.

 رينيه جون ويلهلم ، " الصليب الأحمر للآثار التذكارية " ، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 430، أكتوبر/ تشرين الأول 19 54، صـ793-815

   

أقسام ذاتصلة