صفحة من الأرشيف: قد تحتوي على معلومات قديمة

من أفغانستان إلي كمبوديا - حياة مشوهة بالألغام

18-09-2003 تحقيقاتبقلم ألبرتو كايرو

خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية دأب "البيرتو كايرو" الايطالي المتخصص بالعلاج الطبيعي على منح الأمل وتقديم الرعاية لمبتوري الحرب والمعوقين في أفغانستان. فهو مسؤول عن برنامج اللجنة الدولية لتقويم العظام ويقود فريقاً متخصصاً يشرف على تركيب مئات الأطراف الصناعية كل شهر. وقد كتب المقالة التالية إثر زيارة قام بها إلى كمبوديا.

إن عملي هو صنع الأطراف من ذراع أو ساق صناعية.أعمل في كابول مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ويتكون فريق عملي من حوالي مائة أفغاني من اختصاصيين في العلاج الطبيعي وفي تركيب الأطراف الصناعية. يبدو للوهلة الأولى أن مائة شخص عدد كبير يدعو للدهشة. ولكنه في الواقع بالكاد يكفي لتلبية الحاجات ونعمل دائماً تحت الضغط محاولين جلب بعض السعادة للجميع. قبل سنتين، عندما خرج الطالبان تنفس الناس الصعداء وقالوا " لا قتال بعد اليوم، سيعم السلام الآن. لن تستغرق عملية إزالة الألغام طويلاً ولن نرى المزيد من الجرحى.كل هذا بعد أن كدنا نيأس " . ولكن بدلا من ذلك وصل عدد المبتورين عام 2002 إلى أكثر من الألف ولا زلنا هنا في هذا العام.

هذا وسعياً وراء تحسين الأطراف التي نصنعها، أرسلنا الصليب الأحمر إلى كمبوديا لنطلع على العمل في هذا البلد الذي تنتشر فيه كذلك الألغام في كل أنحائه. ولم يكن أحد منا قد ذهب من قبل إلى هناك وجميعنا متشوقون للتعرف إليه .

إن حفلات وداع الأفغانيين تطول كثيراً حتى تصبح  أشبه بالمشهد المسرحي. لا بد من تذكيرهم  " أننا لن نغيب أكثر من عشرة أيام " ، علهم يختصروا التوديع. إن مطار كابول ليس بعيداً ولكن حركة السير كثيفة والأفضل ألا نتأخر. وكنت على حق. فالسيارات والدراجات في كل مكان، ورجال الشرطة يلوحون بأيديهم وينفخون في صفاراتهم، والمشاة يتدافعون من كل جنب فيما النساء المغطاة بالبوركا يشكلن خطراً على أنفسهن وعلى الآخرين وأمام أعينهن هذا القناع. وها نحن عند تقاطع " بيبي مارو " نرى فتاة ورجلاً كلاً منهما على عكاز يحاولان العبور ولكن السيارات تجبرهما في كل مرة على التراجع، فيما يقف الشرطي الذي وجد له مكاناً في الظل يدخن سيكارة مستغرقاً في تأملاته. نفتح لهما الطريق ونسمح لهما بالعبور. يلتفتان مندهشين. الرجل يتعرف إلينا ويبتسم والفتاة تسلّم أيضاً . هما " زيا غول " ووالدها . " زيا غول " كانت في مركز تقويم العظام قبل بضعة أسابيع. وهي تعرج بشكل حاد. لقد فقدت الكثير من وزنها، وبذلك أصبحت ساقها الصناعية كبيرة وبات من الضروري إبدالها. فطلبت منا أن نسّويها كيفما جاء الحال، " سأرى فيما بعد، لا وقت لدي الآن، إني متخلفة عن عملي " .
"فتاة ورجلاً كلاً منهما على عكاز يحاولان العبور ولكن السيارات تجبرهما في كل مرة على التراجع" 
 إننا على علم بقصتها. هي من منطقة " باميان " ، وتنتمي إلى مجموعة " الهزارى " ذات الملامح الشرقية. هم فلاحون وفقراء ويعيشون حياة صعبة: القليل من الأرض والقليل من والخرفان وحمار وبقرة والله يعلم كم من التضحيات كلفتهم. هذا وقبل عشر سنوات، كانت " زيا غول " في المرعى مع أختها الصغيرة عندما انفجر لغم. أما اللغم الآخر الذي وضع هناك عمداً لجرح من يندفع للمساعدة فانفجر مقتلعا ساق أبيها. وجاءا معاً من أجل الحصول على طرف صناعي وعاداً معاً إلى دارهما. ولكن الأب لم يعد قادراً على حراثة الأرض في الجبال. ولكي يستمروا في العيش، باعوا كل شيء وانتقلوا إلى كابول. والآن تغسل الأم الملابس في منازل الأغنياء ، ويجمع الابن الحطب والأوراق لوقد النار، أما الوالد والبنات الصغار فيحيكون السجاد. إلا أن العمل متقطع ولا يأكلون كل يوم. كما أن لا وقت لديهم للمدرسة. إنهم يحلمون بما كانت عليه حياتهم في " باميان " : " كنا سعداء في دارنا " .

  مصنع الأطراف السفلى (الركب والأقدام)  

     

كمبوديا جميلة وتجد الماء في كل مكان. ابتسامات الناس مبهجة وحركاتهم رشيقة وجميلة. وفي " بنوم بنه " نذهب لزيارة مصنع الأطراف السفلى (الركب والأقدام). كل الأحجام والأشكال مصنوعة بكميات كبيرة وتوزع على كل مراكز تقويم العظام في البلاد. هنا لا معاينة للمرضى إنها مجرد ورشة عمل - مثل شركة أدوية من دون مرضى. أما المبتورين فنجدهم بأعداد ضخمة في " باتامبانغ " شمالاً. كلهم تقريباً بسبب الألغام. المركز هنا كبير ومنظم تنظيماً جيداً: غرفة التجبير، والآلات، ومناضد العمل، والقوالب، وقاعات النوم للذين أمضوا وقتاً طويلاً في السفر. وفي وحدة العلاج الطبيعي الكثير من التليين والتمديد، والتدليك، والتضميد، والشد على الأوزان، والمشي للتعوّد على الساق الجديدة، وصعود الدرج ونزوله، وإدارة الدوّاسات. يبدو شبيهاً بمركزنا في كابول باستثناء كل المرضى من " الهزارى " . وفي ركن من أركان الغرفة، فتاة صغيرة ورجل يديران ظهرهما . هي فقدت أحد ساقيها وهو فقد الاثنين، تحت الركبة. يبدو أنها الأطراف الصناعية الأولى إذ أنهما يجدان صعوبة في التنقل. يثبت مشبك شعرها ويتكلمان بأصوات خافتة، من يدري ماذا يقولان. ويقال لنا " انهما كانا يسيران على طرف الغابة في مكان ظنا أنه غير خطر.

اللغم الأول أصابه هو بينما أصاب اللغم الآخر الفتاة وهي تحاول مساعدته " . " ينتميان إلى عائلة من الفلاحين، يأتون من قرية تجد في كل أسرة فيها شخصاً واحداً على الأقل مبتوراً " . في خلال حوالي عشرة أيام تكون الأطراف الصناعية جاهزة. الفتاة عمرها ثمانية أو تسعة أعوام - وسوف تحتاج طوال حياتها إلى أربعين ساقاً صناعياً . ماذا يمكنهم أن يفعلوا في القرية؟ المدرسة بعيدة وبالنسبة إلى من يحمل طرفين صناعيين، السير عبر حقول الأرز والوحل ليس بنزهة. ربما احتاجوا جميعاً أن يرحلوا إلى المدينة للبحث عن عمل أي شيء يسمح لهم بالاستمرار في الحياة. لا يسعك إلا أن تتذكر " زيا غول " ووالدها. كانت تبلغ نفس هذا السن عندما أتت إلينا وكانت قصتها شبيهة بتلك.

 
"الفتاة عمرها ثمانية أو تسعة أعوام - وسوف تحتاج طوال حياتها إلى أربعين ساقاً صناعياً " 
 

إنهم جميعاً سواء، الظلم والعنف ضد أناس لا علاقة لهم إطلاقاً بالحرب أو بالأساليب القتالية. حتى أن الجريمة تبدو أعظم في مثل هذه الجنة من النبات والزهور. نحن القادمون من أفغانستان الجافة والصخرية، ذهلنا بكل هذا الخضار. في كمبوديا حيث الحرب انتهت منذ سنين ، لا تزال هناك ضحايا جديدة. وسوف يأتي المزيد منها.الحروب لا تنتهي بصورة مفاجئة. وحين تكون هنالك ألغام أيض اً، تستمر عقوداً طويلة.