"سريبرينيتسا" غيرت حياتي
06-07-2005 تحقيقات
خلفت الأحداث المروعة التي تكشف وقوعها في "سريبرينيتسا" منذ عشر سنوات وراءها آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء. كما يتذكرها آخرون غيرهم ممن وصلوا بعد سقوط المدينة بأيام مثل "دراغوسلاف بلازيفيتش" الموظف في اللجنة الدولية للصليب الأحمر. تقرير "سانيلا بايرامباسيتش" مندوبة اللجنة الدولية في سراييفو.
رغم عدم استطاعة اللجنة الدولية الوصول إلى " سريبرينيتسا " عقب سقوط المدينة مباشرة في 11 يوليو/ تموز عام 1995، إلا أنها دبرت أمر مساعدة آلاف النازحين من النساء والأطفال وكبار السن الذين أجبروا على اللجوء إلى بلدة " توزلا " والقرى المحيطة بها.
فمن خلال العمل مع منظمات الإغاثة الأخرى والجمعيات الوطنية للصليب الأحمر، وزعت اللجنة الدولية طرود الطعام ومواد النظافة، بالإضافة إلى توفير المياه والمرافق الصحية.
ونظرا لأنها كانت المنظمة الوحيدة المسموح لها بدخول المنطقة الحرام بين قوات صرب البوسنة وقوات جيش البوسنة، تمكنت اللجنة الدولية من نقل عدد كبير ممن لم يقدروا على عبور الخط الفاصل بسبب ضعفهم الشديد. وكان السيد " دراغوسلاف بلازيفيك " أحد سائقي اللجنة الدولية حينذاك.
التحق " دراغوسلاف بلازيفيك " بمكتب اللجنة الدولية في " توزلا " عام 1994 للعمل كسائق، وكان قبل ذلك ضابطا حربيا في كرواتيا المجاورة، ويعرفه الجميع باسم " شيرو " . ورغم المعاناة الرهيبة التي كان عليه أن يشهدها في عمله، لم يندم " شيرو " أبدا على قراره بالعمل مع اللجنة الدولية، بل أنه يرى أن عمله هذا ساعده على أن يصبح ما هو عليه الآن، أي رجل ينظر إلى الحياة نظرة مختلفة.
طُلب من " شيرو " وزملائه السائقين في اللجنة الدولية المتمركزين في " توزلا " في 11 يوليو/ تموز 1995 الذهاب إلى المنطقة الفاصلة – وهي قطاع من الأرض يبلغ عرضه عدة كيلومترات. كانت التقارير تفيد أن آلاف النساء والأطفال وكبار السن من " سريبرينيتسا " نقلوا بالحافلات إلى خط الجبهة عند صرب البوسنة ثم أجبروا على استكمال الرحلة سيرا على الأقدام عبر الأرض الحرام.
وفضلا عما انتابهم من خوف، كان عديد من هؤلاء النازحين يتوقون لمعرفة ماذا حدث لأقاربهم. حاول آلاف الرجال والصبية المسلمين إنقاذ أنفسهم بالسير عبر الغابات من " بوتوكاري " بالقرب من " سريبرينيسشا " إلى " توزلا " . وأدى شعورهم باليأس الممزوج بالخوف والجوع والإرهاق إلى إنهاك عدد كبير منهم حتى إنهم لم يتمكنوا من عبور المنطقة الحرام.
ويتذكر " شيرو " هذه الفترة قائلا: " انتظرنا طوال يوم 12 يوليو/تموز، ولكن لم يظهر أي دليل على وصول ناجين من " سريبرينيتسا " ، ولكن يوم 13 يوليو/تموز في الثالثة أو الرابعة صباحا صحونا على حركة أناس يتدفقون في اتجاهنا. بدأنا في مساعدتهم ولم نتوقف طوال خمسة أيام. كان الناجون يصلون إلى المنطقة الفاصلة في حشود ليلاً ونهاراً. كان عددهم كبيرا ولم يكن ممكناً نقلهم جميعا في سياراتنا، فكنا ننقل الأضعف فقط. "
في هذه اللحظة كان " شيرو " وزملاؤه هم المساعدة الوحيدة التي استطاعت اللجنة الدولية تقديمها. استمعوا إلى الناجين من " سريبرينيتسا " وهم يتحدثون عن مخاوفهم، وخففوا عنهم بقدر ما استطاعوا.
ويقول " شيرو " : " كنا ننقل مجموعة من الناجين إلى مخيم " كلاداني " الذي أعد في عجلة بالقرب من " توزلا " عندما بدأت إحدى السيدات في الصراخ وكانت في حالة من الهلع لأنها فقدت حماها في مكان ما من الأرض الحرام. "
" قال لها إنه كان يريد الذهاب إلى نهر قريب طلبا للماء. عدتُ بالسيارة للبحث عنه، واستطعت أن أجد طريقا صغيرا يؤدي إلى النهر، فاتخذته، وبعد قليل رأيت رجلا راقدا على بطنه وواضعا رأسه في النهر. اقتربت منه لأخرجه، كان مبتلا، ومرهقا ويبكي. كان يريد أن يغرق نفسه إذ كان يائسا تماما ولا يريد الحياة. "
ورغم أن " شيرو " وزملاءه أعدوا أنفسهم لأسوأ ما يمكن أن يحدث، إلا أنهم صدموا من هول المأساة التي شاهدوها. قدموا ما وفي وسعهم من مساعدة بدافع من الغريزة المحضة، وربما قرروا في بعض اللحظات أن يغضوا الطرف عن قواعد الأمن الخاصة باللجنة الدولية للصليب الأحمر.
" تلقت الأمم المتحدة في الليل معلومات بالراديو تفيد أن عددا من النازحين سُدت أمامهم السبل عند خط الجبهة مع صرب البوسنة ولا يستطيعون التحرك. قررنا الذهاب إليهم رغم ما في ذلك من خطر كبير على حياتنا. ولما وصلنا إلى خط الجبهة، خرجنا من سيارات نا، وحملنا أعلام اللجنة الدولية للصليب الأحمر وارتدينا السترات الواقية من الرصاص، وسرنا الأمتار القليلة الباقية. لقد حفظنا الله ولم نصب بأذى، رغم أن الضباط كانوا يوجهون إلينا الإهانات لأننا أنقذنا الناجين من موت محقق. "
بعد هذه الأيام الخمسة التي كانت أكبر تحد واجهوه في حياتهم، استطاع " شيرو " وباقي فريق اللجنة الدولية الذهاب إلى بيوتهم. كان من الصعب عليهم أن يصفوا ما واجهوه لأي شخص حتى أقاربهم وأصدقاءهم. وسوف يحتفظ عدد من هؤلاء الرجال بهذه الذكرى في خلجاتهم ما بقي من عمرهم. إلا أن " شيرو " قرر أن يشاطر الآخرين مشاعره وأن يسعى لطلب المساعدة النفسية.
اليوم وبعد مرور عشر سنوات على هذه الأحداث الرهيبة، تغيرت أمور كثيرة في حياة " شيرو " .
" بلا شك، لم أعد الشخص نفسه الذي اعتدت أن أكونه، ففي السنوات العديدة التي عملت فيها مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أعطيت الكثير. شاركت عددا لا يحصى من الناس الذين قابلتهم أثناء عملي في مشاعرهم ومعاناتهم ومآسيهم. ولكن لا شيء يضاهي ما مررت به في الأيام التي أعقبت سقوط " سريبرينيتسا " .