عندما يُحترم القانون، يسهل إحلال السلام - كلمة السيد بيتر ماورير

28 شباط/فبراير 2017

الجلسة الرابعة والثلاثون لمجلس حقوق الإنسان، مكتب الأمم المتحدة في جنيف، سويسرا. كلمة السيد بيتر ماورير. 

أود أن أتحدث إليكم اليوم عن القوة الإيجابية للقانون؛ كيف يمكن أن تحقق أفضل نتائجها في حماية الناس في أقسى الظروف، بما في ذلك النزاعات المسلحة وحالات العنف الأخرى، وتهديدات النظام العام.

ها نحن في مستهلّ عام جديد، ولا تزال الأزمات التي حظيت باهتمام مجلسكم الموقر قائمة. فما زال الملايين يتجرّعون مرّ التبعات الإنسانية المروّعة والمآسي الشخصية للعنف والحرب. ويقع القدر الأكبر من معاناتهم مُحصّلة انتهاكات حقوقهم الإنسانية وانتهاكات القانون الدولي الإنساني. فالهجمات غير المبررة التي تستهدف العاملين في المجال الإنساني تسفر عن تعطيل أعمال الإغاثة وتفاقم أوضاع المدنيين.

وهذه الانتهاكات من شأنها شلّ حياة ملايين الناس وقطع سبل عيشهم، وتؤدي في نهاية المطاف إلى أزمات سياسية واقتصادية طاحنة تمتد لشمل مناطق برمّتها. وعالميًا، تقف هذه الانتهاكات عقبة أمام تحقيق التقارب الدبلوماسي. هذا فضلًا عمّا لانتهاكات القانون من آثار ضارة على الاستقرار، والتجارة، والاستثمار، والنمو الاقتصادي، وكذلك على الناس وعلى النظم الاجتماعية.

منذ أن تحدثت أمامكم آخر مرة، التقيت ضحايا وقادة سياسيين في العديد من الدول. تشاطر الغالبية العظمى منهم الأمين العام للأمم المتحدة أمله في أن يكون عام 2017 "عامًا من أجل السلام".

ولعل من سبل تحقيق تطلعاتهم تشجيع قدر أكبر من احترام القانون، والكفّ عن مقابلة الانتهاكات بانتهاكات، فننزلق في دائرة وحشية تُغذّي دوامات العنف، وتعصف بفرص حياة كريمة لأجيال متتالية.

إن القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني هما نتاج حنكة سياسية راسخة، تجلّت عبر الوقت والثقافات المختلفة لوضع أدوات عملية لحماية الناس، ومنع المعاناة الإنسانية، وضمان أن تنعم مزيد من المجتمعات بالأمن والازدهار.

وهذان الصكان ليسا تعبيرًا عن حالة مثالية بقدر ما هما ثمرة خبرات ومفاوضات متأنّية. وهما يحققان التوازن بين المصالح الأمنية المشروعة للدول من جهة، وحماية الأفراد في بعض الظروف الأشد خطورة من جهة أخرى.

وعلى الرغم من سمة الواقعية المتأصّلة في هذين القانونين، فكثيرًا ما تُردد على مسامعي شواغل ثلاثة رئيسية تدور حول القانون الدولي الإنساني:

  • "القانون ليس ملائمًا لطبيعة النزاعات المسلحة اليوم".
  • "لا يمكن تطبيق القانون في سياق محاربة الإرهاب".
  • "يفرض القانون التزامات متماثلة غير عادلة على أطراف في نزاعات غير متماثلة، يتزايد فيها انخراط أطراف مسلحة من غير الدول".

ومع أنني أرى أن مثل هذه الآراء يمكن تفهمها أمام العنف الفظيع وغير المميّز الذي عانت بسببه مؤخرًا بلدان وتجمعات سكانية، إلا أني لا أجدها مفيدة للتصدي للتحديات التي يفرضها العنف الذي يشهده عالمنا اليوم.

ولا يمثل القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان عائقًا غير مُسوّغ لحماية أمن الدول.

فالقانون الدولي الإنساني يأخذ بعين الاعتبار المخاطر الأمنية التي تنطوي عليها النزاعات المسلحة، التي صُمّم من أجلها القانون تحديدًا. ويقدم الإرشاد لدى مواجهة معضلات شائكة تتعلق بالضرورة الإنسانية والعسكرية. فتحقيق التوازن الصحيح هنا أمر مهم.

في النزاعات المسلحة، لا يُحظر على الدول استخدام القوة العسكرية ضد الأهداف المشروعة، أو احتجاز أفراد من العدو لأسباب أمنية. لكنّ الأشخاص الذين ليسوا طرفًا بشكل مباشر في الأعمال القتالية أو الذين كفّوا عن المشاركة فيها لهم الحق في ألّا يُستهدفوا بهجمات عشوائية، أو قتل، أو تعذيب، أو اغتصاب.

يُمثّل القانون الدولي الإنساني إطارًا أوليًا لضمان هذه الحقوق الأساسية لا يؤصل لمبدأ المعاملة بالمثل ومقابلة انتهاكات القانون بمزيد من الانتهاكات.

ندرك صعوبة تقييم القانون المنطبق في ظروف مُعيّنة، لكن فكرة أنه لا يمكن استخدام القوة دون قيود يجب أن تظل أساسيةً.

تبرهن لنا خبرتنا أن الاستخدام غير المُقيَّد للقوة من شأنه التحفيز على عنف مفرط في المقابل. وقد يؤدي التعذيب وسوء المعاملة إلى بذر بذور الضغائن، والكراهية، والتطرّف. ويُسفر تدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية عن معاناة إنسانية عميقة، وحركات نزوح هائلة لها عواقب عالمية. ويصبح هذا كله عقبة أمام السلام والاستقرار.

إن تكرار التشكيك في مدى كفاءة القانون يعكس إحجامًا عن تكييف قواعد ومبادئ أثبتت فاعليتها عبر الزمن وتطبيقها بجدية في مواجهة التحديات المعاصرة.

إن تنحية القانون الدولي الإنساني اعتقادًا بعدم جدواه في النزاعات المسلحة في يومنا الحاضر – بما في ذلك في عمليات مكافحة إرهاب معيّنة – لا يعمل إلا في اتجاه تغيير قواعد اللعب لصالح استخدام القوة العسكرية دون تقييد وتأييده، الأمر الذي يغذي دوامات العنف عادة.

وغالبًا ما يكون الغرض من التشكيك في الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي الإنساني في حروب غير متماثلة وسيلة للتهرب من مسؤولية مراعاة الحيطة أثناء إدارة العمليات؛ باحترام قاعدتي التناسب والاحتياط.

أرجو ألا تسيئوا فهمي؛ لا يمكن لأحد أن يغضّ الطرف عن التحديات الهائلة الماثلة في محاربة التطرف المسلح في عالم اليوم. لكنّ التشكيك في قابلية تطبيق القوانين والمبادئ المُقيّدة لاستخدام القوة والتشكيك في مُسوّغاتها يكون في أغلب الأحيان ذريعة لممارسة سلوك غير مسؤول، ووسيلة للانحراف عن الممارسات العسكرية السليمة.

وما يبعث على الشعور بالأسف، أنّ هناك بالفعل نماذج إيجابية لاستخدام القانون لحماية الدول والناس، تحققت غالبًا نتيجة حوارات وثيقة مع منظمات إنسانية كاللجنة الدولية.

ففي العراق، تطبّق مبادئ القانون الدولي الإنساني بنجاح لتوعية السلوك في ساحة المعركة وتوجيه إجراءات الرقابة أثناء عمليات الإجلاء. بالطبع لم تنته جميع المشاكل، لكنّ حدث تحسن كبير لمسه المدنيون.

وفي سورية، جرت مفاوضات الإجلاء مُستندة إلى القانون الدولي الإنساني، ما كفل للمدنيين ممرًا آمنًا في حلب وفي أماكن أخرى.

وفي أماكن الاحتجاز، أثمر تطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان زيادة المعاملة الإنسانية للمحتجزين، وتقليل حالات التعذيب، ومنع الانزلاق إلى دوامات من الكراهية التطرف.

نعمل مع الدول والمجموعات المسلحة من غير الدول في كل نزاع رئيسي لضمان توفير المساعدات الغذائية والصحية للمرضى والجوعى من ضحايا النزاعات المسلحة.

كل يوم، يمكّننا القانون الدولي الإنساني من البحث عن مفقودين، ولمّ شمل عائلات، والتخفيف من المآسي التي تواجهها مجتمعات مزقتها الحروب.

عندما يُحترم القانون، يسهل إحلال السلام. إذ تجد الأطراف التي تطبق القانون أرضًا مشتركة، وقيمًا وثقة مُتبادلين تمثل لبنة لإقامة اتفاق سلام.

إذن فالقانون أداة فعّالة. ويجب أن يُمكّن للقانون كي تتحقق الفائدة منه، لأنه إذا لم يُطبق تكون عواقب انتهاكاته وخيمة على المستويين الفردي والجيوسياسي.

ومن المهمّ أيضًا للحكومات أن تدرك أنّ الغالبية العظمى من الناس الذين يعايشون أجواء الحرب هم في حاجة إلى الحماية التي يكفلها القانون. إذ أظهرت دراسة "الناس حول الحرب" التي أجريناها مؤخرًا أن مواطني الدول الأقرب إلى نزاعات مسلحة يدركون الأهمية البالغة للقواعد الإنسانية. إذن فثمّة أسباب قانونية وسياسية تدعو حكوماتكم لاحترام القانون.

واسمحوا لي – بوصف اللجنة الدولية راعي القانون الدولي الإنساني – أن أنوّه إلى الذكرى الأربعين للبروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف الذَيْن اعتُمدا عام 1977، والتي تحلّ في شهر حزيران/يونيو.

وهذان البروتوكولان – الذَيْن جرى التفاوض حول بنودهما والاتفاق عليهما في المناخ الجيوسياسي بالغ الصعوبة لحقبة السبعينيات – يعيدان التأكيد على مبادئ القانون الدولي الإنساني من خلال قواعد عملية جديدة. ولم تتخلّ الدول عن القانون الدولي الإنساني، وإنما بذلت مزيدًا من الجهد لتوضيح كيفية تطبيق مبادئه عمليًا.

وإني أحثكم على اغتنام هذا العام الذي تحل فيه هذه الذكرى للاعتراف بالقواعد والممارسات الإنسانية المهمة التي يستحضرها هذان البروتوكولان في النزاعات المسلحة. وأدعو كل الدول التي لم تنضمّ بعد إلى هاذين الصكين القيّمين إلى المبادرة بالانضمام.

وأدعو حكوماتكم، قبل كل شيء، إلى عدم الانقياد وراء ما يستدرجها لتصعيد العنف، وإلى عدم مقاومة الحدود المُقيّدة التي يضعها القانون. فكما قُلت: القانون أداة فعالة، ويعود نفعه على الدول، والمواطنين، ويعزز آفاق تحقيق السلام.