الوقت لا يُلئم الجِراح وإنّما يعلّمنا التعايش معها
أن تفقد من تحب هو أسوأ كابوس. جميعنا يخشاه. فعندما تفقد شخصاً عزيزاً على قلبك جراء أعمال العنف والنزاع ينتابك شعور يفوق الألم ويتعدّاه بمراحل، فيتملّكك الغضب والإحباط، وتحاول جاهداً فهم المنطق وراء خسارة غير منطقية، خسارة تترك في نفسك فجوة متّسعة تلازمك مدى الحياة.
منذ عقود عدّة والنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني يعصف بحياة الأشخاص ويبعث فيها الخراب والدمار. يشاركنا أعضاء في منتدى العائلات الثكلى الفلسطيني-الإسرائيلي قصصاً تروي معاناتهم وحزنهم الشديد إثر فقدانهم أفراداً من عائلاتهم جراء النزاع الدائر، آملين ألّا تضطر أي عائلة أخرى أن تواجه الرعب الذي عاشه هؤلاء الأشخاص ومرّوا به.
بُشرى
لقد تزوجتُ في سن مبكّر جداً. كان عليّ أن أترك منزلي وأنتقل للعيش مع عائلةٍ جديدةٍ. كانت فترةً عصيبةً. عندما أنجبتُ ابني محمود، عاد النور إلى حياتي فجأةً وأصبح لكل شيء من حولي معنىً.
أراحني صغر سن ابني محمود عندما بدأت الانتفاضة، ولكّنه كان يكبر أمام عينيّ بسرعة، فببلوغه السابعة عشر من العمر لم تكن الانتفاضة قد انتهت بعد. وفي إحدى الليالي، اندلعت المواجهات إثر اقتحام الجنود قريتنا لتدمير أحد منازلها.
كنتُ متأكدة أنّ محمود في غرفته يتابع دروسه. وعندما سمعت إطلاق النار في الشارع، بتُّ أتجوّل في أرجاء المنزل لأتفقد أطفالي. أدركتُ حينها أنّ محمود ليس في المنزل، فأخبرتُ والده أن يخرج للبحث عنه.
جلستُ في المنزل عاجزةً لا أدري ماذا أفعل. جاء أحد الجيران إلى المنزل وقال لي: "ابنك في المستشفى، ولكن لا تقلقي، هو بخير". أذكر حينها أنّني توجّهت بسرعة البرق إلى المستشفى مُردّدةً في عقلي طوال الطريق سيناريو توبيخ محمود لعدم الاستجابة لطلبي بالبقاء في المنزل.
عندما وصلتُ إلى المستشفى، رأيتُ زوجي يصفع رأسه بحذاء محمود، وهو يبكي ويصرخ قائلاً: " ذهب محمود ولن يعود!" في تلك اللحظة، خسرتُ كل شيء. انهار العالم من حولي. يلازمني هذا الألم طوال الوقت، لم أستطع أن أحمل نفسي على الرقص مع ابنتي يوم حفل خطوبتها، وكأنّني أعيش خسارته مجدداً بحلول كلّ يومٍ جديدٍ.
روني
كنتُ في الكراج عندما هاتفني ابني الأصغر قائلاً: "أبي، عُد إلى المنزل، يوجد أشخاص من الجيش هنا". دخلتُ إلى الشقة لأجد زوجتي جالسةً على الأرض وابني ذو الرابعة عشر يحاول أن يجعلها تقف على رجليها. قضى ابني عمير في الجيش ثلاثة شهور فقط قبل أن يُقتل بهجوم انتحاري.
بعد وفاة عمير، جرت العادة أن أزور قبره في المقبرة العسكرية، وكان هناك قبراً فارغاً إلى جانبه. كلّما نظرت إليه كنتُ أقول لنفسي: "من الشخص الساذج الذي لا يعلم أن هذا القبر الفارغ ينتظر ابنه؟" وقد تبيّن لاحقاً أن هذا الشخص هو أنا.
في عام 2000، قُتل جنديٌّ في غزة. كان الصديق المقرّب لابني إلعاد، فكانا بمثابة أخوين. بعد ثلاثة أسابيع، انتحر إلعاد. ترك وراءه رسالةً أخبرنا فيها أنه لم يعُد قادراً على تحمّل المعاناة أكثر من ذلك، وأنّ فقدانه لأخيه ومن ثم صديقه يفوق قدرته على التحمل.
لم أستطع أن أصدّق ما كان يحدث لي. لم يكُن عقلي قادراً على استيعاب ما جرى. أعجز عن وصف الشعور.
واليوم، بمجرد أن يطأ رأسي الوسادة، تقتحم الذكريات مخيّلتي من جديد. أشتاق لتمضية الوقت معهما، واللعب معهما في الصغر. إنّ هذا الشعور اللامتناهي بأنك مفتقدٌ لشخص ما يكاد أن يكون عميقاً عمق المحيطات.
عائشة
عندما كنتُ صغيرة في السن، اعتنيتُ بأشقائي الستة وشقيقتَيْ. كان محمود الأقرب لي، إذ كان يقلق علي ويحميني في المدرسة، كما كان يدفعني دائماً للدراسة. لم يكُن والدنا مقتدر مادياً، ولذلك فضّل تعليم الأولاد عن البنات، ولكن محمود هو من أصرّ على ذلك. أصبح أشقّائي وشقيقتَي بمثابة أطفالي لأنّي كنت أرعاهم.
كان محمود يبلغ السابعة عشر من العمر في زمن الانتفاضة الأولى. وهو في طريقه لزيارة بيت عمّنا، اندلعت المواجهات في الشارع وأصيب برصاصةٍ استقرّت في قلبه. أخبرنا الطبيب الجرّاح في المستشفى أنّ محمود لن يتعافى إلّا بحصول معجزة. وفعلاً حصلت المعجزة التي أبقته على قيد الحياة، ولكن لم يخبرنا الأطبّاء حينها كم من الوقت سيصمد قلبه على هذا الحال.
يوم وفاته، غلبني إحساسٌ بأنّ روحي تُسلَب منّي. لم أستطع التنفّس. ذهبتُ إلى منزل محمود. عندما رآني، قال لي: "من الجيّد أنك هنا. أحتاجك إلى جانبي طوال الوقت". أراح يده على صدره وفارق الحياة. شعرتُ حينها أنّي فقدتُ ابني. كانت تلك اللحظة بمثابة النهاية بالنسبة لي، لم تكن لدي أي رغبة بمواصلة الحياة.
بِن
كنتُ في المطبخ أغسل الأطباق والتلفاز يشتغل في الخلفية. أُوقِفَ بثّ البرنامج لنقل خبرٍ عن هجوم إرهابي بجانب محطة الحافلات، كان تفجيراً انتحارياً. وبينما كنت أتفحّص الصور المعروضة على شاشة التلفاز، أدركتُ أنّي أعرف المكان جيّداً، إذ كنتُ قد زرته في السابق.
انتظرتُ مكالمةً هاتفيةً من ابنتي يائيل، إذ جرت العادة أن تتّصل بي حال حدوث أمرٍ كهذا. كانت تسألني: "أبي، ماذا ستطهو على العشاء؟" ولكنّي كنتُ أعلم بداخلي أنها تريد أن تطمأنني على نفسها بطريقة غير مباشرة.
اتّصلتُ برقم هاتفها ولم تُجب. وحاولت الاتّصال بأرقام أخرى ولم أصل لنتيجة. خيّم الليل على المكان في حين بقي الهاتف صامتاً. وعندها أدركتُ أنّ يائيل لن تتصّل بي مجدداً أبداً.
في الأيام التالية، كان المنزل ممتلئاً بالناس، من عائلة وأصدقاء وغرباء أرادوا تأدية واجب العزاء. آلاف الأشخاص. ومن ثمّ عاد المنزل فارغاً. كنتُ وحيداً ولم أستطع التوقّف عن البكاء. أردتُ البقاء في سريري منتظراً وفاتي. شعرتُ بغضبٍ عارمٍ لم يتوقّف منذ 15 عاماً وحتى اللحظة. الوقت لا يُلئم الجراح وإنّما يعلّمنا التعايش معها فحسب.
آنات
عادةً ما أقول للناس أن لدي شقيقين أكبر سناً: بينكي يبلغ من العمر 23 عاماً، ويائير في التاسعة عشرة وأنا في السادسة عشرة.
كانا يحميانني ويدلّلانني، كانا مصدر الفخر والأمن بالنسبة لي. لم يتبقّى سوى فتات من الذكريات، تطفو كلّ حينٍ وآخر لتثلج صدري. أتذكر حينما كنتُ طفلة أحاول تعلّم ركوب الدراجة، ولكن بلا جدوى. وبعد عدة محاولات، يئست. ولكن بينكي كان يدرك الكم الكبير من الثقة والحرية الذي سأكتسبه من تلك المهارة، ولذلك لم يستسلم. سخّر وقته كله لتعليمي، فكان يركض ورائي ويحميني ويشجعني إلى أن نجحت أخيراً.
أتذكّر عندما حصلنا أنا ويائير على هدايا من خالي وخالتي اللذان يعيشان في الولايات المتحدة الأمريكية. كنتُ طفلة حينها. حصلتُ على بنطالين رائعين "على الموضة"، وحصل يائير على بنطالَي جينز كانا في بداية السبعينات نادرَي الوجود في إسرائيل ومرغوبين بشدّة. لاحظ يائير رغبتي الشديدة بمثل تلك البناطيل التي حصل عليها. ودون أي تردد من طرفه، طلب منّي أن أختار أحدها وأُعيد خياطته ليصبح على مقاسي. لقد اقتنيت العديد من بناطيل الجينز منذ ذلك الحين، ولكن لا يضاهي أيّ منها ذلك البنطال، فله معزّة خاصة في قلبي.
بينكي ويائير، شقيقَيّ العزيزان، قُتلا كلاهما في ذات اليوم خلال حرب يوم الغفران. كنتُ في السادسة عشرة من العمر حينها. انهار العالم من حولنا أنا ووالدَيّ. انتهت طفولتي في ذلك اليوم. حاولتُ جاهدةً أن أستجمع قواي لأجل والدَيّ، وهما فعلا ذات الشيء لأجلي.
لم أتمكّن حتى اللحظة أن أتقبّل ما جرى، فيلازمني ذلك الألم طوال الوقت.
لقد غيّرت هذه الخسارة مجرى حياتي. أشتاق لهما اشتياقاً جمّاً، وكثيراً ما أتخيّل حياتي لو أنّهما ما زالا هنا.
إخلاص
لقد فقدتُ بصري منذ الولادة. والدي كان بمثابة عينيّ. أتذكّر كيف كان يربط لي رباط حذائي ويحملني بين ذراعيه. كان يعمل كسائق تاكسي. كنت أبلغ السابعة عشر من العمر حينها. في أحد صباحات شهر أيلول/سبتمبر من عام 2004، غادرتُ المنزل بعجلة ولم أعطه قبلة.
كنتُ في المنزل أتابع دروسي عندما جاء جارنا ليخبرني بأنّ والدي قد أُصيب بعيارٍ ناريٍّ أطلقه عليه أحد المستوطنين في طريقٍ فرعيّةٍ. هرعت إلى الخارج غير مكترثةٍ حتى لغطاء رأسي (حجابي). رأيتُ حشداً من الناس في الشارع، نساء ورجال. سمعتُ أحدهم يقول أنّ الرجل قد توفّي. شعرتُ حينها أنّي مغمورةٌ بمياه باردة كالثلج، وأخذتُ بالبكاء.
لم أصدّق أنّه قد توفّي إلّا عندما لمسته. وبغض النظر عن مقدار الوقت الذي يمضي، الألم لا يتغير ولا يختفي. ما زلتُ أتذكّر صوته ولمسته. لا أريد لأي شخص أن يمر بتجربة من هذا النوع.