الصمود والأمل: القصص التي لم تُروَ لعائلات المفقودين
تكمن في خضم النزاعات والأزمات قصصٌ غالبًا ما لا تُروى - قصص العائلات التي تكافح بسبب اختفاء أحبائها. يُعد اليوم العالمي للمفقودين، الذي يُصادف الثلاثين من أغسطس من كل عام، بمثابة تذكير مؤثر بالتحديات الدائمة التي تواجهها تلك العائلات. اكتشف القصص غير المروية عن الصمود والأمل في حياة بعض العائلات السورية المتضررة من اختفاء أحبائها بسبب النزاع السوري، والتي تعيش حاليًا في الأردن، وعاين عن قرب صمودهم وعزائمهم التي لا تلين في مواجهة الصعاب
عنود
" بيوتنا كانت قريبة من بعض، كنت أعطي جيراني لبنة وقشطة وكل شي عندي، كأننا أسرة واحدة"، هكذا تستذكر عنود (74 عاما) حياتها في قريتها التي اضطرت وأسرتها للخروج منها وترك كل ممتلكاتهم خلفهم إثر النزاع المسلّح في سورية.
لا تعاني عنود بسبب اختفاء ابنها فحسب، بل إنها افتقدت أيضاً شعورها بالانتماء إلى محيط تعرفه ويعرفها، وصباحيات الإفطار مع أهل قريتها التي تصفها بقولها "الناس بالقرية ما كانوا يحبون يقعدوا الصباح ويفطروا إلا عندي".
اليوم، وبدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تعمل عنود في مشروعها الخاص لبيع مشتقات الألبان لتعول أسرتها بعد أن تقطعت بهم السبل نتيجة النزوح. تعتبر عنود عملها الحالي مصدرا للدخل والأمل بالوقت نفسه، إذ تمني النفس بأن يعود إليها ابنها وتلملم شتات حياتها علها تستعيد بعضاً مما فقدته مجددا.
عزيزة
مكبلة بمسؤولية الإنفاق على 6 من أفراد أسرتها في الأردن وسورية، ضاقت الأرض بما رحبت على عزيزة ذات الـ 63 عاما والتي نالت نصيبها من ويلات ما خلفه النزاع في سورية من مآس وأوجاع بما فيها فقدان الأحباب والممتلكات.
مثقلة بالحنين والهموم بسبب انقطاع أخبار ابنها الذي فقد في سورية وأملة في أن ترى أبناءها وبناتها وأحفادها يمضون قدما في حياتهم، كرست عزيزة جل وقتها للعمل لتوفير ما تستطيع من القوت الضروري لهم، -خصوصا- لأولئك الذين تعتبرهم أشد ضعفا كابنها الذي فقد إحدى أطرافه بسبب النزاع في سورية وابنتها المطلقة التي تعيل بدورها أربعة أطفال.
بدأت رحلة كفاح عزيزة منذ سنوات بمشروع ذاتي صغير لبيع الملابس الجاهزة. منذ أكثر من عام، حصلت على منحة مالية من اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتطوير مشروعها بغرض توفير دخل أكثر استدامة لها ولمن تعيلهم من أفراد أسرتها.
"هلا صار الدخل أحسن وصرت قادرة أسدد إيجار وفواتير البيت بشكل منتظم وسددت كمان بعض الديون المتراكمة علي. وبعض الأحيان ببعث مصاري لابني المعاق حركيا في سورية." تتحدث عزيزة عن تأثير الدعم الذي تلقته على تطوير واستدامة مشروعها الخاص.
تتلخص أحلام وآمال عزيزة في رؤية من تحبهم يجتازون الظروف الصعبة التي يمرون بها ويتغلبون على التحديات التي تواجههم. كما تمنى النفس بأن ترى وتعانق ابنها المفقود مرة أخرى، والذي تصفه بالطيبة والكرم وحسن الخلق.
فريال
"كنت معتمدة على زوجي بكل اشي كان هو الذي يصرف على البيت" هكذا بدأت فريال (48 عاما) حديثها عن الفراغ الكبير الذي خلفه غياب زوجها المفقود على حياتها، وعلى كل أفراد الأسرة.
تركت فريال سورية في ذروة النزاع المسلح قبل أكثر من عقد من الزمان رغبة في الأمان لأطفالها التي وجدت نفسها مضطرة لإعالتهم والعناية بهم بعد غياب معيل الأسرة الوحيد.
منذ ذلك الحين، أثقلت أعباء الحياة كاهل فريال إلا أن عزيمتها وحبها لأطفالها كانا أكبر من كل التحديات التي واجهتها.
مؤخرا، وبدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فتحت فريال بقالة صغيرة في محافظة المفرق لتعيل أسرتها بشكل أكثر استدامة. بالإضافة لكونها مصدرا رئيسا للدخل ساعدها على الإيفاء بالكثير من الالتزامات، تصف فريال البقالة بـ "مكان للفضفضة" تجتمع فيه مع سيدات يشاركونها تجربة الفقد ليشد بعضهن أزر بعض في انتظار اليوم الذي يعود فيه أحباؤهن إليهن.
ليلى
بعد أن تركوا كل ممتلكاتهم خلفهم في سورية نتيجة للنزاع المسلح، انتهى المطاف بليلى (42 عاما) وأسرتها الصغيرة قليلي الحيلة أمام كل متطلبات الحياة الصعبة في ظل النزوح بعيدًا عن الديار.
ليلى، التي أرهقها بعدها عن شقيقها المفقود منذ سنوات، كابرت وكابدت واستغلت أصغر الفرص التي أتيحت لها لتوفير لقمة العيش لأسرتها. في ظل انحسار فرص العمل الملائمة لزوجها العاطل عن العمل والمحبط بسبب عدم استيعابه حقيقة تحوله من رب أسرة ميسور الحال قبل النزاع إلى شخص معدم مهموم بتوفير القوت الضروري لطفلتيه، اضطرت ليلى للتدخل ومساعدة زوجها وتحمل مسؤولية الأسرة حبا وأملا ببناتها وبغد أفضل لهن.
منذ أكثر من عام، حصلت ليلى على منحة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ساعدتها على تطوير مشروع صغير، كانت قد شرعت به سابقا، في مجال تصنيع المخللات المنزلية.
"شخصيتي كتير تغيرت، صار عندي دافع كبير عشان بناتي، بدي أعملهم اللي بقدر عليه وما أمد ايدي لحد، بدي يتعلموا القوة مني لأنهم سندي وأنا سندهم، "هكذا تصف ليلى الأثر الذي تركه عملها على حياتها. ترى ليلى في عملها فرصة لاستكمال حياتها بشكل صحي قائلة "ما في اشي اسمه صفر في الحياة، بنقدر كل يوم نبدأ من أول وجديد."
عائلة أم سامر
تشاركت أم سامر، التي تركت سورية مع زوجها وأطفالها واستقرت في الأردن قبل أكثر من عشر سنوات، مر الحياة وحلوها -وإن قل- مع شريك حياتها المحب ووالد أطفالها إذ يخوضون معا مسيرة نضال وكفاح مثيرة للإعجاب لتوفير متطلبات الحياة الضرورية لأطفالهم الخمسة.
تركت آثار النزاع المسلح في سورية ندوبا عميقة في نفس أم سامر خصوصا بسبب مصدر همها الأكبر، اختفاء شقيقها الذي كان صديقها الأعز. إلا أنها قاومت حزنها وضعفها وقررت المضي في حياتها وحاولت جاهدة دعم زوجها في سعيه طلبا للرزق. لم يكن الأمر سهل عليها إذ وجدت نفسها قليلة الحيلة بسبب عدم اتقانها حرفة أو صنعة تدر عليها دخلا يمكن أن تساعد به أبو سامر.
لحسن الحظ يمتلك أبو سامر مهارة عالية في مجال النجارة وترميم الأثاث. على الرغم من مهارته العالية وموهبته، يفتقر أبو سامر للمعدات والأدوات اللازمة لعمله مايشكل عائقا كبير له.
أثمر سعي أم سامر لدعم زوجها بتلقيها منحة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، استخدمتها لمساعدة زوجها في توسيع أعماله لتعزيز قدرته على المنافسة في السوق.
"شغل أبو سامر وتعبه وموهبته وحبه لنا هو اللي معيش الأسرة من زمان. بعد المنحة اللي استخدمناها لتوسيع عمل أبو سامر، تحسن الدخل وصرنا ندفع إيجار البيت ونصرف على الأولاد أحسن من أول. أتمنى ينمو شغل أبو سامر كمان وكمان ونقدر نوفر معيشة أفضل لأولادنا"
أكثر ما يحز في نفس أم سامر حاليا هو عدم تمكن الأسرة من تحمل مصاريف وتكاليف تسجيل أي من أبناءها في الجامعات. إلا أنها لم تفقد الأمل بمستقبل أفضل تتمكن فيه من احتضان شقيقها الغائب وأبناءها معا في حفل تخرج أبناءها من جامعة ما في يومًا ما!
ر.ع
"من المحن بتطلع المنح"، هكذا تلخّص ر.ع معاناتها وأثر عملها الحالي عليها بعد أن استقر بها الحال في الأردن بعد النزوح من سورية منذ أكثر من عقد من الزمن. بعيدة عن زوجها المفقود منذ سنوات طوال ومكلومة برحيل شقيقها وزوج بنتها بسبب النزاع في سورية، وجدت ر.ع نفسها وحيدة وضعيفة ومعدمة. لم تستسلم رع لقسوة الحياة واليأس وقررت أن تخوض المستحيل من أجل أطفالها. "كنت محطمة نفسيًا، لكن خفت على أطفالي الخمسة وخصوصا بنتي الأرملة وطفلتها. استجمعت قواي عشان عيالي وقررت اعمل المستحيل عشانهم وبدأت اشتغل في التطريز لإنه ما كان إلي معين" تقول ر.ع مستذكرة بداياتها خلال عملها بمهنة التطريز الصعبة التي بجهدها واجتهادها ومهارتها العالية استطاعت أن تحقق فيها نجاحًا باهرًا.
اليوم، وعبر الدعم الذي وفّرته اللجنة الدولية الصليب الأحمر، وسعت ر.ع أعمالها ووفرت فرص عمل لـ١٢ سيدة أخرى. تعتبر ر.ع أن عملها الحالي كان سببا مباشرًا في قدرتها على مواصلة تعليم أبنائها وبناتها الذي بلغ بعضهم المرحلة الجامعية الآن.
روزا
باختفاء زوجها، المعيل الوحيد للأسرة، بداية النزاع المسلح في سورية قبل أكثر من عشر سنوات ودمار منزل الأسرة الوحيد بعدها بعامين، بدأت معاناة روزا (52 عاما) وأطفالها الأربعة قبل أن يستقر بهم الحال نازحين في الأردن عام 2013.
تفاقمت معاناة الأسرة وروزا تحديدًا عندما شُخِّصَت بالسرطان بعد أكثر من عام. بالرغم من هول الصدمة، تمالكت روزا نفسها ورباطة جأشها، وقررت بدْء مسيرة كفاح إضافية، وبدأت مرحلة العلاج من السرطان، الذي شفيت منه بعد سنتين قبل أن يعود إليها مجددًا عام 2018. وعلى الرغم من مرضها وضعفها وحالتها النفسية المتعبة، بدأت روزا مشروعًا صغيرًا لإعداد وبيع مأكولات منزلية ومخللات في العام 2016 إلا أن اشتداد المرض حتم عليها تغيير المشروع، الذي تتطلب الكثير من الجهد والوقت، والتحول لصنع صابون ومنظفات منزلية بعد أن حصلت على منحة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر قبل أكثر من عام.
"صار الإنتاج الآن أكبر والعائد أفضل، وهذا ساعدني أسدد بعض ديوني، وصرت قادرة، من وقت لآخر، أبعث مصاري لبنتي المتزوجة في سورية. أنا راضية على نفسي، وعلى ولادي لأنهم أعطوني الأمل وألهموني، مقاومتي للسرطان وكل اللي عملته وأنجزته كان عشانهم وبفضل دعمهم. مشتاقة كتير لزوجي المفقود، وأتمنى يرجع بيوم حتى يشوف كيف صار أولادنا كبار معتمدين على حالهم هلا." هكذا اختتمت روزا حديثها ملخصة قصتها التي ما تزال مستمرة إلى اليوم.
تنفذ اللجنة الدولية للصيب الأحمر برنامج جلسات دعم نفسي جماعية لعائلات المفقودين بمن فيهم المستفيدات من منح دعم الاقتصاد الجزئي، كالسيدات الوارد قصصهن الملهمة في هذا المعرض والعشرات غيرهن، التي تهدف لتمكينهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية، وتوفير نفقاتهم التي لا يمكن الاستغناء عنها بطرق مستدامة تصون كرامتهم. يتخطى أثر هذه الجلسات المشاركون بها ليصل إلى أفراد أسرهم ومحيطهم العام. "بعد ما حضرت بنتي جلسات الدعم النفسي صارت تدعمني وتخفف علينا احنا التنتين، فخورة فيها وكيف صارت وكيف كبرت" هكذا تصف والدة رانيا تجربة ابنتها الأرملة مع جلسات برنامج الدعم النفسي.
تمثل الجلسات الجماعية للدعم النفسي فرصة لمشاركة التجارب بين الذين يتشاركون تجربة الفقد، الأمر الذي يساعدهم في التخفيف من الأثر النفسي لهذه التجربة القاسية. "خلال جلسات الدعم النفسي بنقعد ونخفف على بعض لنطلع من الحالة اللي إحنا فيها، تجاربنا مشتركة، بنحس ببعض وبنعرف انه إحنا مش لحالنا" تقول، نوار، إحدى المشاركات في الجلسات.
-
ساعد جلسات الدعم النفسي الجماعية في تعزيز قدرة المشاركين على التعامل مع صدمة الفقد، وإيجاد طريقة لتعزيز تفاعلهم مع ما تركه أحبائهم من ذكريات بشكل إيجابي "كل ما أشتاقله بقرأ مذكراته. قبل الجلسات كان مستحيل افتح هالدفتر، كنت أخاف وأهرب من الموضوع بس بيوم حكولنا نجيب اشي للمفقود، جبت هالدفتر ومن يومها كل ما اشتاقله بفتح وبقرأ مذكراته لعل وعسى أخفف عن حالي وأخلي ذكراه موجودة دايماً"، هكذا تصف فطومة تجربتها في التعامل مع ذكريات زوجها المفقود.
-
تعزز جلسات الدعم النفسي الجماعية أيضاً من ترابُط المشاركين ببعضهم وتساعدهم على خلق علاقات صداقة صحّية تخفف من آثار التجربة عليهم. "صار عندي صديقات مقربات بنستنى اليوم تبع الجلسة يجي حتى نجتمع مع بعض. كل ما أحس حالي وحيدة ومضغوطة بقعد أتفرج على فيديوهات الرحلات اللي طلعتها معهم أو بحكي مع وحدة منهم"، هكذا تصف عنود الأثر الذي تركته الجلسات على علاقاتها الاجتماعية.
بينما نتأمل القصص الإنسانية لهذه العائلات السورية، دعونا لا نشهد فقط على صمودهم ولكن أيضًا نقف متضامنين معهم. دعونا نوصل ونُسمع أصواتهم، ونرفع الوعي بمعاناتهم، ونناشد بتوفير المزيد من الدعم والموارد لتلبية احتياجات عائلات المفقودين. معًا، يمكننا إحداث فرق من خلال تعزيز التعاطف والمساعدة الملموسة لأولئك الذين يكابدون معاناة فقدان أحبائهم. فلنتخذ إجرات اليوم لضمان عدم معاناة أسر المفقودين بمفردها في ظل حالة عدم اليقين التي يمرون بها.