رحلة بلا عودة: اللجنة الدولية للصليب الأحمر تساعد في معرفة مصير مُهاجر مفقود
تخيل أن تضطر لترك بلادك، وعائلتك، وزوجتك، وأطفالك، وذكريات طفولتك، وكل شيء، وكل من تعرفه، وأن تتجه نحو المجهول، مُتخذاً خطوة مُحاطة بالمخاطِر وقد تُكلفك حياتك... فقط لتحقيق أحلام بسيطة، يحق لأي شخص أن يستمتع بها في الحياة اليومية. لكن بالنسبة لمُحمد، اللاجئ السوري في الأردن، كانت القصة مُختلفة.
كان مُحمد، ذو الثلاثين عاماً، يعيش في الأردن بعد أن فر تاركاً سورية عام 2013. وكونه مُتزوج ولديه طفلة في العاشرة من عمرها، قضى مُحمد سنواتٍ وهو يحاول أن يصل بعائلته إلى مستوى جيد من المعيشة. وكان أعظمُ أحلامهِ هو أن يضمن مواصلة ابنته تعليمها، وأن تبني مُستقبلاً أفضل لها ولعائلتهم. بناءً على ذلك، اتخذ مُحمد في عام 2023 القرارَ المؤلم بالشروع في رحلةٍ خطيرة، تاركاً خلفه زوجته وابنته. لقد انطلق في هذه الرحلة أملاً بأن تُـفتح له أبواب الفُرص في الخارج والتي قد تسمح له بتحقيق أحلامه بمستقبلٍ أفضل.
ربما كان ذلك أكثر الخيارات صعوبةً ورُعباً بالنسبة لمُحمد، كونه اضطر لترك أحبائه خلفه وهو على وعيٍ تام بالمخاطرِ والمجهول الذي ينتظره على طريق الهجرة، علاوةً على الصعوبات المالية الشديدة.
لقد كانت رحلة الموت مليئة بالمخاطر – الخوف، الوحدة، المجهول، وألم فراق العائلة. لكن بالرغم من تلك الصعوبات، واصل مُحمد طريقه، مُتمسكاً بكل قوته بالإيمان بأن تضحياته ستؤتي ثمارها يوماً ما بالنسبة لأحبائه.
كان أحد الأسباب الإضافية لرحلته الخطرة رغبته بالحصول على العلاج الطبي، حيث كلما حملت زوجته كانت تتعرض للإجهاض. لذا أراد محمد بشدة الحصول على العلاج وأن ينجب معها العديد من الأطفال. كما كان يأمل بتأمين دخلٍ أفضل نسبياً ليتمكن من تغطية احتياجات أسرته المتنامية. هذه الأهداف هي ما جعلته غير مُبالٍ بمخاطر رحلته، مُركزاً فقط على أهدافه المنشودة.
كانت أوروبا هي وجهة مُحمد. وفي 15 آذار/مارس 2023، غادر الأردن متجهاً إلى مصر، ومن ثم سافر إلى ليبيا، المحطة الأخيرة قبل التوجُه إلى أوروبا.
أثناء وجوده في ليبيا، تنقّل مُحمد من مكانٍ لآخر حتى استقر مع مجموعة من الناس لمدة ثلاثة اشهر تقريباً، كان خلالها على تواصُل مُنتظم مع عائلته، إلى أن حان وقت صعوده إلى القارب. أصيبت عائلته بالرعب الشديد، خاصة بعد أن علموا بأن القارب كان مكتظاً جداً، وعدد ركابه يتجاوز العدد المُتفق عليه بكثير. ونظراً لذلك، رفض محمد هو وسبعة من أصدقائه الصعود إلى ذلك القارب في البداية، لكن مع الأسف، اضطروا للصعود بالنهاية. وقد تبين لاحقاً بأن محمد ندم على قراره في مرحلة معينة وأراد التراجُع عن هذه الرحلة الخطرة، ولكن بعد فوات الأوان.
قضى المهاجرون أربعة إلى خمسة أيام في عرض البحر بدون أية وسيلة للتواصُل. وفي هذه الأثناء، حاولت العائلة الاتصال بمُنظمي رحلة الهجرة، إلا أن الردود كانت إما غامضة أو مُماطِلة. وفي يومٍ من الأيام، انتشر الخبر الصاعق على وسائل التواصُل الاجتماعي: لقد انقلب قاربٌ يطابق مواصفات قارب مُحمد. وتبيـن بأنه كان يحمل ما يُقارب 900 مهاجر غير شرعي، تم فقدان حوالي 750 منهم في عرض البحر الهائج.
شعر شقيق مُحمد بالصدمة من وقع هذا الخبر وبدأ بالتواصُل مع معارفه في أوروبا في محاولة يائسة للحصول على أية معلومة حول القارب ومصير مُحمد. وبالنهاية تناهى إلى علمه بأنه كان هناك قاربين: أحدهما وصل إلى وجهته بأمان، بينما غرق الآخر قرب السواحل اليونانية. إلا أن العائلة، في إصرارٍ على كشف الحقيقة، استمرت في بحثها عن مُحمد.
أخيراً تمكنت العائلة من التواصُل مع الناجي الوحيد من مجموعة مُحمد، والذي سرد عليهم الرحلة المُرعبة، مؤكداً كم كانت خطرة وغير آمنة. وحسب قوله، كان القارب مكتظاً بشكل خطير، وبدون أية احتياطات للسلامة. ومن الصادم أنه لم يُسمح للمُهاجرين حتى بارتداء سترات نجاة. إلا أن مصير مُحمد بــقي مجهولاً.
وفي تموز/يوليو 2023، تواصلت عائلة مُحمد مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عمّان، في محاولة يائسة للحصول على إجابة، طالبين دعم اللجنة الدولية لمعرفة مصير عزيزهم المفقود.
قام فريق اللجنة الدولية بفتح طلب بحث وتقصي فوراً، وعمل بالتنسيق الوثيق مع السلطات المعنية. وكجزءٍ من عملية تحديد الهوية، تم جمع عينات الحمض النووي (DNA) من خلال تضافر الجهود بين كل من اللجنة الدولية في الأردن، والسلطات الأردنية، والسلطات المعنية في أثينا. وتم تأكيد الخبر المُحزن. لقد تطابقت عينة الحمض النووي مع إحدى الرفات التي تم انتشالها من البحر.
مُحمد لم يعُد على قيد الحياة.
لقد غرق، كحال آلاف المهاجرين الذين دفعوا الثمن الأغلى للنزاعات المُسلحة والهجرات القسرية. أولئك المدنيين الأبرياء الذين اضطروا لدفع حياتهم مُقابل الأمل بتأمين حياة كريمة ومُستقبلٍ سعيد لعائلاتهم.