مقال

سوريا: لعائلات المفقودين، فإن الإجابات، وليس الوقت، هي التي ستخفف الألم

Two people sitting in front of ICRC staff

يصادف يوم 30 آب/أغسطس اليوم العالمي للمفقودين، وهو يوم نخلد فيه ذكرى الأشخاص المفقودين بمن فيهم ضحايا الاختفاء القسري ونقف تضامناً مع عائلاتهم. 

يقف هذا اليوم أيضاً بمثابة تذكير صارخٍ بمئات وآلاف الأشخاص المفقودين في جميع أنحاء العالم. داخل سوريا، سجّلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أكثر من 000,37 حالة اختفاء على مدى السنوات الـ 14 الماضية. تشير سنوات الصراع الطويلة وحالات العنف والكوارث والهجرة التي عانت منها البلاد إلى أنّ الأرقام أعلى مما لا يمكن إنكاره. لا تزال العائلات هنا كما في جميع أنحاء العالم تنتظر الأخبار، وتعدّ الأيام بدون أحبائها. في هذا اليوم وكل يوم نريد لهذه العائلات أن تعرف أنها ليست وحدها، وأن أحباءها لم يُنسوا، وأننا سنواصل الوقوف إلى جانبهم ودعمهم في العثور على الإجابات التي يستحقونها.

ترك الأشخاص الذين فُقدوا خلفهم ذكرياتٍ جميلة، وحيواتٍ انقطعت مسيرتها فجأةً، وعائلاتٍ مازالت تنتظرهم، ما زالت تأمل أن يأتي اليوم الذي يحمل إجابات لأسئلتها التي لا تعد ولا تحصى.

بالنسبة لهذه العائلات، كلّ تفصيلٍ صغيرٍ يعيد إليهم ذكريات أحبّتهم المفقودين. كرسيٌّ فارغ على المائدة، نبتة في حديقة البيت، طعام كانوا يفضّلونه. كلمات أحبّتهم الغائبين تتردّد باستمرار في أذهانهم. لن تندمل الجروح العاطفية والنفسية مع مرور الوقت، لكنّ عزيمتهم في البحث عن الإجابات لن تضعف كذلك. أملهم وقوّتهم سيبقيان حاضرين مهما طال بهم الزمن لمعرفة مصير أحبّتهم ومكان وجودهم.

Mohammad sits on a sofa looking directly into the camera
عمار صبوح/اللجنة الدولية

أبناء محمد الأربعة مفقودون

محمد، أبو وائل. أبناؤه الأربعة: وائل، فايز، محمود، وأصغرهم أحمد، جميعهم مفقودون.

تعجز الكلمات عن وصف ما أشعر به. أرغب بالبكاء عندما يمرّون في ذاكرتي. كل سؤال عنهم يعيد فتح الجراح. حلمي الوحيد أن أراهم مجدّدًا ــ حتى ولو واحداً منهم فقط. لا تفارقني ذكراهم أبداً. أينما ذهبتُ، أراهم أمامي. عندما كانوا هنا، كانت مكالمة هاتفية واحدة منّي تكفي ليحضروا ــ كانوا يأتون إليّ فوراً مهما كانت المسافة. تعطّلت مرّة بي السيارة في القامشلي، فاتصلت بهم، وجاؤوا على الفور. لا يمكنني أن أنساهم أبداً.

نسأل الله أن يعين كل والد فقد ابنه… فلك أن تتخيّل مقدار الألم بقلب من خسر أربعة من أبناءه.

Ahmad sitting facing the camera facing a woman in an ICRC vest whose back is to the camera
عمار صبوح/اللجنة الدولية

ابن أحمد مفقود منذ أحد عشر عاماً

قبل أحد عشر عاماً، فُقِد ابني ولم أسمع عنه أي خبرٍ منذ ذلك الحين. كان هو سندي، يفهم ما أحتاجه دون أن أتكلم. لا يمكن لأي شيءٍ أن يوفيه حقّه عمّا قدّمه لي. أصبحت الحياة أصعب بكثير من دونه. ومع ذلك، ما زلت في أعماقي أؤمن بأنّه سيعود. وما زلت أدعو له بالسلامة، وأن يكون الله راضياً عنه الآن ودائماً.

Um Mohammad looks at a picture of her son
عمار صبوح/اللجنة الدولية

أبناء أم محمد الثلاثة مفقودون

عندما قالوا إن السجناء قد أُطلِق سراحهم، تجدّد عندي الأمل بأن أجدهم. ما زال أبناء إخوتهم يسألون عنهم. حفيدي يقول: “ليتني أستطيع أن أرى أيديهم… أتمنى أن أرى أعمامي وأكون مثلهم. لن يكون لي أبناء عم، سأبقى وحيداً."

يقولون: الطفل صغير يبقى صغيراً حتى يكبر، والمريض يبقى مريضاً حتى يشفى، والمفقود يبقى مفقوداً حتى يعود إلى أهله. وما زال الأمل يسكن قلبي.

Lana Noamaan holds up a smart phone with a picture of her father
عمار صبوح/اللجنة الدولية

فقد والد لانا حين لم تكن سوى طفلة في السادسة من عمرها

الحياة بلا أب صعبة. أحياناً أسأل نفسي: لماذا عليّ أن أعيش حياة بلا أب، بينما صديقاتي يحيط بهنّ آباؤهنّ؟ من حقي أن أشعر بما يعنيه أن يكون لي أب في حياتي. أتخيّله أحياناً وهو عائدٌ إلى البيت، فأركض نحوه، أقبّل يده، وأحادثه.

وعندما يتقدّم أحد لخطبتي، أتمنى لو كان والدي موجوداً ليبارك لنا المناسبة. لا أحب حضور الأعراس، لأنني لا أستطيع أن أحتمل مشهد أب يرقص مع ابنته في أجمل يومٍ في حياتها.

Hasan sits across a table from a woman in an ICRC vest
عمار صبوح/اللجنة الدولية

حسن: ابنه، وخمسة من إخوته، جميعُهُم مفقودونَ

أصعبُ اللحظاتِ كلُّها تأتي يومَ الجمعةِ. كنّا ننتظرُ ذلك اليومَ بفارغِ الصبر. كان ذلك هو يومُ اجتماعِ العائلةِ كلِّها معاً. لم يكن يوماً عادياً. كنّا نقومُ بأعمالِ المنزلِ معاً أو نُعِدُّ غداءً مميّزاً لاستقبالِ أخٍ عائدٍ من عملهِ في دمشقَ أو في لبنانَ. وكان الجميعُ يحرصونَ على أن يكونوا في البيتِ يومَ الجمعةِ مع والدينا.

لكنني اليومَ أجلسُ وحدي كلَّ جمعةٍ، يملؤني شعورٌ دائمٌ بالفقدِ… الإحساسُ بأنّ شيئاً جوهرياً في هذا البيتِ قد كُسر.

 

تعيش العائلات بين الانتظار والأمل

ومثلَ هذه العائلاتِ، ما زال آلافُ السوريّينَ يأملونَ أن يأتيَ يومٌ يسمعونَ فيهِ خبراً عن أحبّتهم، أن يتمكّنوا من احتضانهم من جديد.

إنّ قضيةَ المفقودينَ، بما في ذلك ضحايا الإخفاءِ القسريِّ، تُعَدُّ من أشدّ العواقبِ المدمّرةِ والدائمةِ للنزاعاتِ المسلّحةِ وأعمالِ العنفِ الأخرى والكوارثِ والهجرةِ. فخلفَ كلِّ شخصٍ مفقودٍ عائلةٌ تعيشُ في عذابٍ وعدمِ يقينٍ، تكابدُ ألمَ الجهلِ بما جرى لأحبّائها.

إنّ العائلاتِ بحاجةٍ ولها الحقُّ في أن تعرفَ ما الذي حدثَ لأحبّتها. والعمل على قضيةِ المفقودينَ أمرٌ أساسيٌّ لتحقيقِ السلامِ والمصالحةِ. فالقضايا غيرُ المحسومةِ يمكن أن تُطيلَ أمدَ الصدمةِ، وتُعمّقَ الجراحَ، وتُفاقمَ الانقسامات، حتى بعدَ وقتٍ طويلٍ من انتهاء أعمال العنف.

اليومَ، وفي كلِّ يومٍ، تقفُ اللجنةُ الدوليةُ للصليبِ الأحمرِ متضامنةً مع جميعِ عائلاتِ المفقودينَ، وتُؤكّدُ حقَّهم في معرفةِ مصيرٍ وأماكنِ وجودٍ أحبّتهم المفقودين.