المجتمعات تحتاج إلى حيز لحماية نفسها وعلى الدول أن تبادر بمنحها هذا الحيز

بيان أُلقي في المناقشة المفتوحة بمجلس الأمن بشأن حماية المدنيين في النزاعات المسلحة

23 آيار/مايو 2019

بالصيغة التي أدلي بها

سيادة الرئيسة، الزملاء الموقرون،

نتوجه بالشكر إلى دولة إندونيسيا على إدارتها لهذه المناقشة، وننوه مع التقدير بدعمها المتواصل باستضافتها مؤتمرًا إقليميًا مهمًا للقوات المسلحة في جاكرتا في غضون أسابيع قليلة من اليوم. وكلنا ثقة بأن المؤتمر سيحذو حذو هذه المناقشة وسيؤذن بمزيد من الجهود لتعزيز حماية المدنيين عبر عمليات أفضل لحفظ السلام.

سيادة الرئيسة، إننا نقدِّر التزام بلدك والتزامك الشخصي بهذه القضية، لا سيما تركيزك على تعزيز دور المرأة في حفظ السلام.

ونتوجه بالشكر أيضًا لك سيادة الأمين العام على قيادتك القوية في ما يخص تسليط الضوء على الفجوات الخطيرة التي نواجهها اليوم في مجال الحماية.

قبل 20 عامًا مضت، دعا مجلس الأمن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتقدم إحاطة حول قضية حماية المدنيين، واعتمد المجلس البيان الرئاسي الذي رحب كذلك بإسهامات اللجنة في هذه القضية.

وقد اتضح لنا خلال هذين العقدين الماضيين مدى تأثير القرارات السياسية والعسكرية المتخذة في هذه القاعة على الأوضاع الإنسانية بساحات القتال في جميع أنحاء العالم.

إذ يمكن لهذه القرارات أن تُنقذ أرواحًا أو أن تقضي عليها؛ ويمكنها أن تبعث الأمل في النفوس أو تُشقيها؛ كما يمكنها أن تعزز القواعد التي تحمي القوانين والمبادئ الإنسانية العالمية أو تخرقها.

وتحدد أيضًا إذا كان القصف سيحيل المدن ركامًا، أم سيتجنب المدنيين والمستشفيات،

وإذا كان الأطفال سيذهبون إلى المدرسة أم سيُجندون في القوات المسلحة،

وإذا كان السجناء سيُعذبون في السجون أم سيُعاملون معاملة لائقة،

وإذا كانت العائلات ستحصل مجددًا على أخبار عن أحبائها أم لا.

أصحاب السعادة، لا تستأثر القرارات التي يتخذها كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ولا سيما في مجلس الأمن بالأهمية وحسب، بل إن عدم إصدار المجلس قرارات يتحمل تبعاته الموجعة المدنيون. ففي ساحات القتال حيث تعمل اللجنة الدولية اليوم، يستغل الكثير من الأطراف الفاعلة غياب التقارب السياسي بينكم ويرونه فرصة سانحة لإجراء عمليات عسكرية دون أي قيود ودون مُساءلة.

بعد مضي 70 عامًا على التصديق على اتفاقيات جنيف عالميًا، وأكثر من 40 عامًا على اعتماد البروتوكولين الإضافيين إليها، و20 عامًا على عقد مجلس الأمن أول مناقشة حول قضية حماية المدنيين، لا نزال نشاهد وقوع انتهاكات جسيمة بصفة يومية.

بينما نتفهم أنه من الصعوبة بمكان إيجاد توافق سياسي في الآراء، فإننا نناشدكم إبداء قدر أكبر من الوضوح في دعمكم لاحترام القانون الدولي الإنساني، وفي إقرار واتباع الحقيقة البسيطة القائلة بأنه ليس هناك أحد فوق القانون وأنه لا يمكن استبعاد أي مدني من الحماية.

اليوم، وأمام تغير ديناميات النزاعات، لا يزال القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان يشكلان حجر الأساس.

والعمل الإنساني يتكيف وفقًا للاحتياجات المتغيرة للأشخاص. وندعو الدول أن تتكيف هي الأخرى:

عبر وضع حماية المدنيين على رأس أولوياتها؛

عبر الالتزام بالقانون الدولي الإنساني والتأثير على شركائها لكي يحذوا حذوها في ذلك؛

عبر تحديد أطر أكثر وضوحًا لقواتها والقوات التي تدعمها؛

عبر إرساء قواعد أساسية أكثر وضوحًا؛

عبر إجراء عمليات تدقيق للشركاء، وتدريبهم وتوجيههم؛

عبر تطبيق أعلى معايير الاحتياط في نقل الأسلحة؛

عبر تحديد أطر واضحة للإشراف والمُساءلة.

من خلال هذه التدابير، يمكنكم التأثير على السلوك وحماية السكان المعرَّضين للحرب والعنف.

يجب أن يُرسَّخ هذا النقاش في تجارب واحتياجات الأشخاص والمجتمعات التي تعاني يوميًا من ويلات الحرب.

ويجب اتخاذ التدابير التي من شأنها حماية المدنيين ليس من الأذى البدني فحسب بل ومن الأذى النفسي غير المنظور الناجم عن إساءة المعاملة كالتعرُّض للعنف الجنسي، أو التعذيب في الاحتجاز، أو عدم معرفة مصير الأحباء المفقودين.

كما يجب أن نتجاوز نمط تفكير الضحية بغية فهم الأشخاص والمجتمعات باعتبارها جهات فاعلة تسهم في حماية نفسها وتتمتع بالخبرة في أوضاعها، فرغم احتياجات أفراد هذه المجتمعات، فهم يمتلكون أيضًا مهارات وإمكانات وقدرة هائلة على الصمود.

وهم لا يقبعون ساكنين بانتظار تدخلات خارجية للتصدي للمشكلات والتهديدات التي يواجهونها. فهم من يقررون أفضل الطرق للتنقل في مجموعات بما يضمن عدم ترك الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة أثناء فرارهم، ويختارون مقدمًا الطريق الذي سيسلكونه، ويناقشون المواقع التي عليهم تجنبها، ويتفاوضون مباشرة مع حاملي السلاح. لقد عززت وسائل الاتصال احتمالات توفير الحماية الذاتية، ويلزمنا جميعًا التكيف مع هذه التطورات الجديدة.

وبينما نطلب المزيد من أعضاء مجلس الأمن ومن المجتمع الدولي بأسره، فإننا نطلب منكم على أقل تقدير عدم إعاقة جهود الأشخاص المحتاجين إلى الحماية في توفيرها لأنفسهم.

فكثيرًا ما نرى أنه إلى جانب تعرُّض السكان لويلات الحرب والعنف، فإنهم يُمنعون من الوصول إلى أماكن أكثر أمنًا، وتُوضع العراقيل البيروقراطية أمامهم، ويُحرمون من التنقل بحرية.

الزملاء الأعزاء، عند وضع الأشخاص في محور اهتمامنا، نجد أن طبقات الحماية يجب أن تبنى عبر ثلاثة مجالات مترابطة يلزم فيها تنفيذ سياسات وممارسات استباقية للحماية، وهذه المجالات هي: مستوى الفرد، والمجتمع، والسياق.

عندما يواجه فرد تهديدات مباشرة تمس سلامته وكرامته، فمن الممكن تقليل الضرر إلى حدٍ كبير عبر الالتزام الصارم بالقواعد المُنظِّمة لاستخدام القوة، ووضع ضوابط مشددة على الأسلحة، والتعامل بإنسانية مع المحتجزين خلال نقلهم وداخل أماكن احتجازهم.

كما لا يمكننا التغافل عن قضية الأشخاص المفقودين. فمئات الآلاف من الأشخاص - إن لم يكونوا ملايين - مفقودون في شتى أنحاء العالم.

ويعاني أفراد عائلاتهم أشد المعاناة من جراء فقدهم، والأسئلة التي لا يجدون لها أجوبة، وآلامهم التي تتفاقم بمرور الوقت. ويمكن لهذه الجراح الملتهبة أن تؤذي نسيج مجتمعات بأسرها، وتقوض العلاقات بين المجموعات والأمم، أحيانًا على مدى عقود من وقوع الأحداث الأصلية.

ولمصلحة الأفراد والمجتمعات برمتها، صار الواجب الإنساني واضحًا؛ وهو أن للعائلات حق في معرفة مصير أحبائها، وأنه يجب على الدول اتخاذ الخطوات التي تحول دون ذهاب الأشخاص في عداد المفقودين من الأساس، على سبيل المثل عبر تسجيل المحتجزين وإبلاغ عائلاتهم باحتجازهم. واللجنة الدولية والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر على أهبة الاستعداد لدعم الدول في هذه الجهود.

وقد بذلت اللجنة الدولية جهودًا خاصة بهدف إدماج نُهج الحماية المجتمعية على نحو أكثر منهجية في استجاباتها. وهذا جزء من التزامنا بالخضوع للمساءلة أمام السكان المتضررين.

لكن الجانب المهم هو أنه لا يمكن اعتبار هذه الأنشطة بديلًا عن مسؤوليات الحماية المنوطة بالسلطات والدول، إذ يجب على الدول وضع تدابير ترمي إلى حماية سكانها بما يتماشى مع التزاماتها. والمجتمعات تحتاج إلى حيز لحماية نفسها، وعلى الدول أن تبدي قدرًا أكبر من المبادرة في منحها هذا الحيز.

وتتطلع اللجنة الدولية إلى الاستفادة من دورها كوسيط محايد لدعم هذه الأنشطة. على سبيل المثال، في دعم المجتمعات في الدفاع عن حقوقها لدى السلطات أو حاملي الأسلحة من أجل ضمان سلامة سكانها خلال ممارستهم لحياتهم اليومية؛ من قبيل السعي للحصول على الغذاء والماء، والتماس المساعدة الطبية، وذهاب الأطفال إلى المدرسة، وغير ذلك. وتنظم اللجنة الدولية كذلك جلسات تعريفية للعائلات لإطلاعها على حقوقها القانونية، حتى يتسنى لها الاتصال بالسلطات بمزيد من الاستقلالية.

بالإضافة إلى ذلك، توسّع اللجنة الدولية نطاق مساعداتها بغية إيجاد مجتمعات أقوى عبر مشاريع الاقتصاد الجزئي التي تهدف إلى تقليل التعرُّض للمخاطر، فتوزّع البذور التي يمكن أن تُزرع في المدن لتفادي تعرُّض النساء للاعتداء أثناء توجههن إلى الحقل، أو توفر أنشطة مدرة للدّخل لتقليل السلوكيات المضرة مثل اللجوء إلى عمالة الأطفال.

كما أن توفير سُبل الحماية في البيئات الهشة يتطلب استثمارًا أوسع نطاقًا يتجاوز عمل الجهات الفاعلة في المجال الإنساني، مثل ترميم الأسواق وتمكين الأنشطة الاقتصادية المستدامة.

وفي سياق الحماية الأوسع: في ظل زحف الحروب المتزايد نحو المدن، يتضح بجلاء أن آثار التفجير والقصف في المدن نادرًا ما تقتصر على الأهداف العسكرية.

وأصبح الأثر الواسع النطاق الذي تحدثه الأسلحة الشديدة الانفجار معروفًا جيدًا الآن في المناطق المكتظة بالسكان، واستخدامها ضد أهداف أصغر من نطاق تأثيرها غالبًا ما لا يمكن تبريره على الصعيد الأخلاقي وربما حتى على الصعيد القانوني.

فالتكلفة باهظة على نحو لا يمكن تبريره، وتتجاوز تعرُّض المدنيين للوفاة والإصابة، فنشاهد بِنى أساسية طالها من الضرر ما أدى إلى انهيار الأنظمة الصحية وأنظمة الإمداد بالمياه الضرورية، وغير ذلك الكثير.

والضرر لا يلحق بالبنية الأساسية المدنية فحسب، فكثيرًا ما يتم تجاهل التبعات البيئية للنزاعات. والقانون الدولي الإنساني يكفل حماية البيئة الطبيعية باعتبارها أحد الأعيان المدنية.

وهذا يضم الموارد الطبيعية الحيوية التي قد لا يقتصر أثر الإضرار بها على بقاء السكان المدنيين على قيد الحياة فحسب، وإنما تخلف مخاطر بيئية كذلك.

من المقرر هذا العام أن تصدر اللجنة الدولية مبادئ توجيهية محدَّثة حول القانون الدولي الإنساني والبيئة الطبيعية. وسنتفاعل مع الجهات العسكرية بشأن هذه المبادئ التوجيهية، ومع أطراف النزاعات لضمان اتخاذ التدابير العملية التي من شأنها حماية البيئة الطبيعية.

نشهد كذلك فجوة في المخاطر ومواطن الضعف المتعلقة بالحماية في البيئة الرقمية. فربما يتعرَّض الأشخاص لجرائم كراهية، وعنف، وتمييز، ومراقبة وتصنيف رقميين بسبب وجودهم على شبكة الإنترنت أو استخدامهم التقنيات الرقمية أو كليهما معًا، من قِبَل جهات منها الحكومات والقطاع الخاص وجهات فاعلة أخرى من غير الدول.

ويمكن أن يُفضي هذا إلى الموت في مناطق النزاعات.

يجب ألا تصبح البيانات المجمَّعة عن الأشخاص المتضررين، بما في ذلك عبر العمليات الإنسانية، مصدرًا لمخاطر إضافية للسكان أو للمنظمات الإنسانية.

وينبغي للدول الترويج لنهج "عدم إلحاق الضرر" مع دعم آليات للمساءلة، بهدف تعزيز الاستخدام المسؤول للتقنيات والبيانات.

سيادة الرئيسة، بعد 20 عامًا من أول تناول من اللجنة الدولية لقضية حماية المدنيين في مجلس الأمن، لا تزال الانتهاكات والتجاوزات مستمرة. فلنعمل معًا وننسق استجاباتنا حول هذه المستويات الثلاثة: الفرد، والمجتمع، والسياق الأوسع.

ونحن إذ نحتفل هذا العام بالذكرى السنوية السبعين لاتفاقيات جنيف، فإننا نحث الدول على استعادة الروح التي سادت وقت عقد هذه الاتفاقيات، والمتمثلة في الحفاظ على الكرامة الإنسانية وسط النزاعات المسلحة.

أشكركم.