أصوات من الداخل:
أسئلة دارت في أذهان جراحي الحركة الدولية للصليب الأحمر
والهلال الأحمر خلال عقد من جراحة الحرب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

على مدى السنوات العشر الماضية، ابتليت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدة نزاعات مسلحة، وقد نجم عن هذه النزاعات وغيرها من حالات العنف مستويات غير مسبوقة من المعاناة الإنسانية، كما أوصلت نظم الرعاية الصحية بأكملها إلى حافة الانهيار، في وقت يكون فيه الأشخاص في أمس الحاجة للرعاية الطبية...
مقال 03 كانون الأول/ديسمبر 2018

وتدخلت الحركة الدولية في هذه البلدان التي مزقتها الحروب، سعياً منها للحيلولة دون انهيار نظم الرعاية الصحية وسد الفجوات حال حدوث الانهيار بالفعل وذلك من خلال توفير المستلزمات الطبية، أو إصلاح أو تحسين البنية التحتية، أو إرسال موظفين متخصصين في المجال الطبى، بما في ذلك الجراحون وأخصائيو العلاج الطبيعي والممرضات، وفي حالات أخرى، أنشأت مستشفى مؤقتًا بالكامل.

تسلط القصص التالية الضوء على بعض من أنشطة الحركة ومشروعاتها ذات الصلة بجراحة الحرب، كما رواها المتخصصون في مجال تقديم الخدمات الطبية، الذين عملوا في غزة واليمن والعراق وسورية وليبيا ومصر على مدى العقد المنصرم.

24 ساعة من العمل بلا هوادة

د/ ماورو ديلا توري

جراح إقليمي بأفريقيا - اللجنة الدولية

غزة 2008-2009

 وصلتُ القدس في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2008، ثم دخلت غزة عن طريق معبر إيريز في 4 كانون الثاني/ يناير 2009، كانت ذروة الشتاء، أصيبت مجموعتنا بحالة من التوتر بمجرد أن وقع نظرها لأول مرة على آثار القصف العنيف.

كنت أعمل أخصائي تخدير وجراح حرب، لذا عملت بقسم الطوارئ بمستشفى "الشفاء".، كنت في المنطقة الحرجة - غرفة الإصابات - بالقرب من المدخل، كان لدى ثلاثة أَسِرَّة، وكان من الصعب تهيئة المريض، لذا كان من الضروري التنسيق بين أفراد الطاقم الطبي.

 في أحد الأيام، استقبلنا عدداً هائلاً من المصابين، تتطلب حالتهم التزويد بالأكسجين لتيسير التنفس، لكن لم يكن هناك أي أَسِرَة أو أي أشخاص لمساعدتي. كان علي إيجاد حلول مرتجلة لزيادة فرص بقائهم على قيد الحياة، لذا طلبت المساعدة من بعض الطلبة، وبدأنا في ضغط البالونات لمساعدتهم على التنفس.

 فقد عدد كبير من المصابين وعيهم من جراء الانفجار وفقدوا كماً كبيراً من الدم، لذا كانوا في حالة صدمة، فكان علينا أن نستعين بحسنا الفطري لمساعدتهم قبل أن ينهاروا.

 احتشد عدد كبير من أقارب المصابين، وكان علينا أن نسيطر على الازدحام، وهو أمر غاية في الصعوبة، كما كان هناك أشخاص مسلحون يصيحون هنا وهناك.

لم يكن الطقس البارد في صالحنا، فموجات الانفجار كانت تدمر النوافذ، لذا اضطررنا إلى تركها مفتوحة، ولكن لم يكن لدينا ما يكفي من الأغطية، لأن تدفق المصابين كان مروعاً.

كانت الغرف تمتلئ بسرعة مذهلة، كانت 24 ساعة من العمل بلا هوادة 

 وفي النهاية، كنت منهكاً للغاية. لم يكن بمقدوري أن أقف على قدميّ، وشعرت بإرهاق شديد عقب وقف إطلاق النار. أعتقد أني لن أمر بمثل هذه التجربة العجيبة مرة أخرى - يا لها من تجربة إنسانية فريدة!


 

لم أر قط مثل هذا العدد الهائل من المرضى في يوم واحد

ريتشارد فيلار جراح حرب – اللجنة الدولية

 غزة  2018

 أعمل ضمن فريق الجراحين التابع للجنة الدولية في مستشفى غزة الأوروبي بخان يونس. وصلت غزة قبل اندلاع أحداث العنف بأربع وعشرين ساعة، ونحن في طريقنا إلى المستشفى، خيم الهدوء التام على الشوارع. كانت شبه خالية من المارة، كنا نتساءل هل هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، وأدركنا أن الاحتجاجات على وشك الاشتعال.

لم أر قط مثل هذا العدد الهائل من المرضى في يوم واحد، كان طاقم العمل متأهب لذلك، ومع ذلك كان الأمر فوق القدرة على الاحتمال.

برزت بعض الأمور؛ تدخل العاملون غير الطبيين وأنقذوا الأرواح، شاهدت عمال النظافة يساعدون الأطباء في إسعاف المصابين، رأيت إداريين يحاولون وقف النزف لدى المصابين لكي لا ينزفوا حتى الموت.

تلقى حوالي 120 - 130 مريضاً العلاج في غرف العمليات بهذا المستشفى وحده، وفجأة وصلت حافلة على متنها حوالي 40 مصاباً، وكان علينا إسعافهم.

وقد سبق لي أن شاهدت أناساً مصابين بأعيرة نارية، ولكن ليس بهذا الكم الهائل. هذه هي مهمتي التاسعة أو العاشرة مع الصليب الأحمر، وهذا أكبر عدد من الإصابات رأيته في يوم واحد، وأعتقد أن الأمر مماثل بالنسبة للعاملين هنا، فهم يقولون إنهم لم يشهدوا من قبل هذا العدد الهائل من الحالات في هذه الفترة الزمنية القصيرة "يوم واحد". كان تحدياً لوجيستياً هائلاً، لكن الفرق العاملة قهرت التحدي ونجحت في المهمة، ويمكنهم بالفعل أن يفتخروا بأنفسهم.

عبور البحر من جيبوتي إلى عدن

اللجنة الدولية

عدن – اليمن  2015 

 في ليلة من ليالي نيسان/ أبريل 2015، استقل فريق جراحي متنقل تابع للجنة الدولية، يضم أربعة أفراد، سفينة شحن من الخشب محملة بالإمدادات الطبية (60 قدماً)، حيث أبحرت من جيبوتي في رحلة استغرقت 12 ساعة عبر خليج عدن. كان القتال محتدماً في عدن على مدى الشهر الماضي، وكان السكان المحليون يعانون من عواقبه، وقد باتت الإمكانات والمستلزمات الطبية شحيحة، وكان عدد الضحايا آخذاً في الارتفاع.

 قاد ماركو بالدان – جراح حرب باللجنة الدولية – الفريق إلى منطقة تسودها الحرب، لكن ذلك جزء أساسي من عمل اللجنة الدولية – وهو تقديم المساعدة حيثما وجدت حاجة ماسة إليها.

قالت آنا لوفينها – أخصائية تخدير من البرتغال وأحد أعضاء الفريق – إنها كانت أكثر قلقاً بشأن المهمة التي تنتظرها، وتساءلت قائلة:

ماذا لو كان عدد المرضى أكثر مما يمكننا التعامل معه؟ أكره أن يموت المريض – فهل سأكون قادرة على المواصلة؟ هل سنتمكن من تقديم الرعاية الطبية اللازمة؟

وأضافت "لكني سأواصل، أعتقد أنه من واجبي أن أذهب، وبوصفي طبيبة أشعر أنه يتعين علي مساعدة الناس قدر استطاعتي".


 


الإدارة الجيدة لعملية فرز المصابين لتحديد أولوية تلقي العلاج = مستشفى جيد الإدارة


في مناطق الحروب، يفد إلى المستشفيات في أغلب الأحيان سيلاً هائلاً من المصابين بالأعيرة النارية أو من جراء انفجار القنابل. وهناك عملية تعرف بعملية "فرز المصابين لتحديد أولوية تلقي العلاج"، وتهدف هذه العملية لتحديد الحالات الأولى بتلقي العلاج أولاً حسب خطورتها، وتتضمن هذه العملية إعطاء الأولوية للحالات الأكثر خطورة، بل تتضمن أيضاً اتخاذ قرارات صعبة بشأن الحالات التي يمكن علاجها وتلك التي لا تجدي معها المساعدة.

مدينة أشباح مليئة بالغبار

ليون جانييه، ممرضة عمليات، الصليب الأحمر الكندي

العراق، الموصل 2017

كنت في مهمة في الفترة من 19 حزيران/ يونيو إلى 20 تموز/ يوليو 2017. وصلنا إلى مقر إقامتنا، ثم حضرنا جلسة إحاطة عن التلوث الكيميائي المحتمل، ثم ذهبنا لنبدأ عملنا. منذ أول لحظة وطأت قدماي المستشفى الحكومي العام بالموصل، كانت التجربة مؤثرة للغاية، فقد كان هناك عدد كبير من الأشخاص بغرفة الطوارئ ينتظرون ذويهم المصابين، وعدد كبير أيضاً من الحراس المسلحين.

 بدأنا برنامج العمليات اليومي، بدأنا بحالات الطوارئ أولاً، ثم الجراحات الاختيارية. كانت الإصابات الناجمة عن الحرب كسوراً مفتوحة وإصابات بالبطن على وجه التحديد، وكنا نباشر من خمسة إلى ستة مرضى في اليوم. أردت أن أكون مفيدة، لكني شعرت بأنه على ما يبدو لم يكن بمقدوري أن أبذل ما في وسعي، مع هذا العدد الهائل من الأشخاص المحتاجين للمساعدة.

كان التحدي الرئيسي بالنسبة لي هو مواجهة "حرب مستعرة"، حيث من الممكن أن أسمع دوي القنابل طوال الليل. عندما أنهيت مهمتي، تركت ورائي مدينة أشباح مليئة بالغبار.

وآمل أن أعود إليها في يوم من الأيام، فلا أجد الأطفال محبوسين بالمنازل بسبب الخوف، بل أجدهم يلعبون في الشوارع، وسيكون من المثير أن أعود إليها بعد عشر سنوات وأراها وقد أعيد بناؤها. من المستحيل نسيان كل هؤلاء الضحايا الأبرياء والأسر المشتتة والأطفال اليتامى.

عبد الله: التئام الجروح وبناء المستقبل

   جمعية الهلال الأحمر القطري

الموصل – العراق – 2017

عبد الله طفل يبلغ من العمر خمسة أعوام. نقل عبد الله إلى المستشفى على كرسي متحرك، ولم يكن يدري ما الذي يجري حوله، وجوه غريبة تهرع من حوله، كان خائفاً ووحيداً، وكانت عيناه الدامعتان تروي الرعب الذي شهده. اضطرت أسرة عبد الله، شأنها في ذلك شأن العديد من الأسر الأخرى، إلى الفرار من القتال الدائر بالموصل والمدن والقرى المحيطة، ولاذت بإحدى المدارس في منطقة من المناطق الآمنة.

وفي إحدى الليالي، تعرضت المدرسة لغارة جوية. أصيب عبد الله بشظايا، أدت إلى إصابته بتهشم في العظام، ووُضع في سيارة إسعاف تابعة لجمعية الهلال الأحمر القطري، نقلته على الفور إلى مستشفى حمام العليل الميداني، الذي تديره الجمعية، والذي يقع جنوب الموصل. خضع عبد الله لعملية جراحية واستقرت حالته. لم يبق على قيد الحياة من الأسرة التي كانت تضم عشرة أفراد، سوى عبد الله وأخته ذات التسعة أعوام.

تولى المستشفى الذي نقل إليه عبد الله علاج حوالي 2000 من جرحى الحرب، خلال فترة عمله، من شباط/ فبراير حتى أيلول/ سبتمبر 2017. تعافى عبد الله من جروحه البدنية الآن، إلا أنه ما زال لا يستطيع أن يدرك أنه فقد أسرته.


 

 

نظراً لأن إصابات الأطراف من الإصابات الشائعة في النزاعات المسلحة، لذا ينبغي أن يكون جميع الجراحين على دراية بكيفية التعامل مع الكسور الأساسية. وتمثل الاعتبارات الثقافية أهمية كبيرة، وعليه يضطر العديد من الجراحين التابعين للجنة الدولية والجمعيات الوطنية "مناقشة" القرار بالبتر مع أفراد الأسرة والعشيرة. ويتعين على كل جراح تحديد أفضل السياسات التي يمكن اتباعها، وفقاً للسياق الثقافي والموارد المتاحة، بما في ذلك، خدمات إعادة التأهيل البدني وتركيب الأطراف الاصطناعية. وفي الوقت ذاته، عليهم ألا ينسوا أبداً أن الأولوية هي إنقاذ الأرواح وليس الأطراف، ولكن حتى هذا قد لا يكون صحيحاً دائماً، إذ يفضل الناس، في بعض المجتمعات، الموت على العيش بالتشوه البدني الذي ينتج عن البتر، وينبغي احترام رغبات المريض وأسرته.

 أمل "روان" في مستقبل أكثر إشراقاً

جمعية الهلال الأحمر القطري

غزة -2014 

منذ بضعة أعوام فقط أثناء القصف الذي وقع في غزة في صيف 2014، اتخذت روان نجار وأسرتها من منزل أحد جيرانهم ملجأ لهم، إلا أن هذا المنزل تعرض للقصف والانهيار، وباتت روان حبيسة تحت الأنقاض.

وجاء على لسان أبو محمد نجار – والد روان "شاهد العالم كله الصور المؤلمة لابنتي والدماء محتبسة في وجهها"، وبمجرد أن اكتشف المنقذون أن روان لا تزال على قيد الحياة، أرسلوها إلى المستشفى الأوروبي بغزة، حيث مكثت بوحدة الرعاية المركزة لمدة ستة أيام. وعند نقلها إلى قسم جراحات الأعصاب، قال والدها "ندعو الله أن يمن عليها بالشفاء، ويعينها على استعادة ابتسامتها الجميلة، ويمنحها القدرة على العودة للمنزل". وأضاف أن إدارة المستشفى قررت نقلها إلى مستشفى الأمل التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، الذي افتتحه الهلال الأحمر القطري في عام 2013.

والآن تستمتع روان النجار، وهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، باللعب مع أبناء وبنات إخوتها وأخواتها بمنزلهم في خان يونس بغزة.


 

شكراً على مساعدتي لأولد من جديد

   د/ فتحي فليفل

جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني

رئيس مركز الموارد النفسية الاجتماعية

الأراضي الفلسطينية المحتلة – 2018

لن أنسى قصة الرجل الذي أصيب إصابة بالغة، أدت إلى بتر كلتا ساقيه، ومن ثم بات عاجزاً عن مغادرة منزله. قضى الرجل سبعة أشهر في الظلام، وبدأ يفقد وزنه تدريجياً، وبدأت صحته تتدهور. سمعنا عن حالته من بعض الصحفيين عقب النزاع الذي دار في غزة في 2008 -2009. ذهبنا إليه في منزله، فرفض مقابلتنا في بداية الأمر، ولكن، بعد مضي ثلاثة أيام، اتصلت بنا أسرته وأخبرتنا أنه على استعداد لمقابلتنا، فذهبنا لزيارته مرة أخرى، وفي هذه المرة، استطعنا التحدث معه.

بعد مضي شهر، وافق الرجل أخيراً على الذهاب إلى أحد مراكز الدعم النفسي الاجتماعي، التي تديرها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وفي خلال بضعة شهور، وبعد خضوعه لعلاج نفسي داعم، بات الرجل أكثر اندماجاً في مجتمعه، وانضم للفريق الرياضي لذوي الاحتياجات الخاصة، وشارك في مسابقات محلية وإقليمية. ولن أنسى ما قاله للفريق "شكراً على مساعدتي لأولد من جديد".

تغيير حياة المرضى

لمى الصليحي

اللجنة الدولية

كبيرة الاخصائيين الاجتماعيين بالعنبر

مستشفى رفيق الحريري الجامعي

 أرى بعيني كيف نغير حياة المرضى، فعملنا لا ينتهي عند تقديم الرعاية الطبية لهم بالمستشفى، بل نتولى أيضاً متابعة حالاتهم، ونوفر لهم الأمن الاقتصادي من خلال ربطهم بالمنظمات غير الحكومية والجمعيات التي يمكنها مساعدتهم، ونتأكد من إحالة كل مريض إلى المنظمة المناسبة.

 قد يعجز الضحايا وأسرهم عن دفع تكاليف الرعاية الملائمة والأجهزة وإعادة التأهيل، والعديد منهم لن يسعى حتى للحصول على المساعدة، لأن السفر قد يكون غير آمن، أو مقيداً نتيجة للنزاع القائم، أو لأن المستشفيات توجد في مناطق تقع رهن سيطرة الطرف المعادي. وما يزيد الأمر سوءاً، أن هناك مناطق كثيرة قد تكون ببساطة بالغة الخطورة، لدرجة تحول دون عمل المنظمات الإنسانية بها.