العراق: ثلاثية الماء والحياة والصراع ضد التغيّر المناخي

لفترةٍ قصيرةٍ جداً، غطت السحب الداكنة السماء وحجبت أشعة الشمس اللاهبة في قرية الحزامات وهي قرية صغيرة تقع بالقرب من مركز قضاء عفك في محافظة الديوانية. كان المطر على وشك أن يتساقط. وبعد بضع دقائق، اختفت الغيوم بشكل أسرع من ظهورها وسطعت الشمس مجدداً- لاهبةً حارقة.
تقع هذه القرية في جنوب البلاد ويسكنها قرابة 1,200 شخص يتوزعون على 125 عائلة. في عام 1975، نزحت 600 عائلة تقريبًا من مناطقها بسبب السياسات آنذاك وأصبحت قرية الحزامات بمثابة وطنٍ جديدٍ لها. وعلى كل حال، وبسبب الجفاف الحاد الذي بدأ في عام 2018، عانى المجتمع المحلي، الذي يعتمد بشكل رئيسي على الزراعة وتربية الماشية لكسب المعيشة، من مصاعب جمة. وبسبب تضاؤل الفرص الزراعية، هاجر الكثير من الأشخاص الى المدن والى المحافظات الأخرى من أجل البحث عن الفرص الاقتصادية.
لقد تسببت الأحوال المناخية السيئة وظروف العيش المتدنية بخسائر اقتصادية جسيمة، وبخاصة بين كبار السن والأطفال. كما أن الجفاف وظهور علامات الجفاف على الروافد المائية المحلية بضمنها نهر الحزامات الحيوي وقنوات الري يجعل من معظم محطات معالجة المياه غير فاعلة وليست ذا تأثير. ولذلك، تعتمد الكثير من العوائل حاليًا على حفر الآبار لاستخدام المياه للأغراض المنزلية.
لمدة 5,000 عام، قام سكان الأهوار وهم من السكان الأصليين للأراضي الرطبة بصيد السمك وزراعة المحاصيل في مكان ليس ببعيد من المكان الذي وقفت فيه. كما قاموا بتربية جواميس الماء وبناء منازل من القصب على جزر عائمة في المكان الذي يلتقي فيه نهرا دجلة والفرات قبل أن تصب مياههما في نهاية المطاف في الخليج العربي.
ولآلاف السنوات، كانت بلاد ما بين النهرين موطنًا للزراعة نظرًا لوجود نهرين رئيسيين يحيطان بالهلال الخصيب، والذي ازدهرت فيه أولى الحضارات بوجود المحاصيل الزراعية والماشية. لنسرع بالزمن وصولًا الى يومنا هذا، تشكل عوامل التغير المناخي وتلوث المياه واستكشاف النفط وبناء السدود عند منابع النهرين عوائق تحول دون ديمومة هذا النظام البيئي الهش وحضارته القديمة في بلاد ما بين النهرين والتي يزعم البعض أنها تعود لعصر السومريين. وعلى النقيض من وجود أراضي خصبة وشاسعة ازدهرت قديما بفضل الزراعة، في الوقت الحالي باتت معظم الأراضي جافة وقاحلة. أضطر الصيادون والمزارعون وصانعوا الزوارق إلى ترك سبل العيش التي تعتمد على الماء والانتقال الى المدن بحثًا عن فرص عمل جديدة.
"خلال آخر 30 سنة، كانت الحياة رائعة. إذ تمكنا من توسعة الحقول الزراعية الخاصة بنا وكنا نزرع معظم الخضراوات الموسمية والرز والحنطة والفواكه. الوضع الحالي مزري والحياة تكاد تكون مستحيلة. النشاط الاقتصادي الوحيد في القرية حاليًا هو الزراعة وقد توقفت الكثير من العوائل عن ممارسة الزراعة في حين غادر آخرون الحقول الخاصة بهم بحثًا عن الماء،" يقول عادل موهان، أحد المزارعين المحليين.
ومن أجل وضع المشكلة في سياقها، جرى وضع العراق من بين أكثر خمس دول في العالم تأثرًا جراء التغير المناخي بحسب بيانات الأمم المتحدة. إذ يهدد التصحر 92% من أراضي العراق في حين تزداد درجات الحرارة سبع مرات ما هي عليه في أي مكان آخر من العالم.
في طريقي للعودة بعيدًا عن الشمس الحارقة، تلتفت عيني صوب وحدة تحلية المياه التي نصبتها جمعية الهلال الأحمر العراقي بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ادراكاً من هذه الجهات للأزمة التي تعيشها هذه المناطق من البلد. تُعد قرية الحزامات وقضاء عفك من بين أكثر المناطق تضرراً بأزمة الماء بسبب شح الماء والتحديات التي يفرضها التغير المناخي. قامت جمعية الهلال الأحمر العراقي الى جانب اللجنة الدولية بنصب محطة تحلية المياه في عام 2023 بموجب اتفاق الشراكة حول تحسين سبل الوصول الى الماء في مجتمعات متضررة في جنوب العراق وتعزيز جاهزية قسم البناء والاصحاح التابع لجمعية الهلال الأحمر العراقي للاستجابة للطوارئ.
تهدف هذه المبادرة الى تحسين أوضاع العيش لأفراد المجتمعات في جنوب العراق والتي تضررت جراء التغير المناخي. شمل المشروع نصب محطة لتحلية الماء بسعة انتاجية تصل الى 2000 لتر من المياه النقية في الساعة الواحدة باستخدام منظومة طاقة شمسية بقدرة 15 كيلو واط وذلك للحد من عدم استقرار الطاقة الكهربائية وتقليل الاعتماد على زيت الكاز في ظل استمرار انقطاعات التيار الكهربائي وأزمة الكاز.
قدم فريق قسم المياه والسكن التابع للجنة الدولية الدعم الفني والرقابة المباشرة لعملية نصب محطة التحلية الى جانب توفير التمويل الكامل لعملية التنفيذ. على نحوٍ إضافي، وسعت جمعية الهلال الأحمر العراقي هذه المبادرة لتشمل أقرب مدرسة الى المشروع من خلال نصب براد ماء يستفاد منه حوالي 150-200 طالب.
عندما تجمعت السحب الداكنة مجدداً بعد بضعة دقائق، تساقطت قطرات المطر القليلة على وجهي لتذكرني بمشاعر الابتهاج والفرحة التي تخيم على الناس عند تعبئة الأوعية الخاصة بهم من منافذ تجهيز الماء والسعادة الغامرة التي يعيشونها عندما يفيض الماء على وجوههم.
يصف المزارعون المحليون المشروع بأنه حافز للعوائل يساعدها على البقاء في القرية بدلاً عن مغادرتها بحثًا عن الماء. ويشير موسى لطيف راضي، أحد شيوخ العشائر في القرية، الى ان الاطفال يمكنهم الاستمرار في الذهاب الى المدارس عندما يصبح الماء متوفرًا ويمكن الوصول إليه.