شبح الهوية يهدد مصير أطفال مجندي الدولة الإسلامية
بقلم جان نيكولا باكيه -رولو
بقلم: جون نيقولا باكيه-رولو
النساء هنا في المخيم مريضات ومنهكات وخائفات، ينهش القلقُ أرواحهن. وأخريات يعانين من الإصابات، أو في حيرة من أمرهن، أو في حال حِداد. لا يملكن من هذا العالم سوى أطفالهن، ولا يردْن من العالم سوى أطفالهن الذين تشتتوا بعيدًا عنهم بسبب النزاع.
عندما تسأل إحدى هؤلاء الأمهات عن عدد أطفالها، فدائمًا ما تخبرك بأن الموت غيَّب أحدهم. تخبرك الواحدة منهن: "كان لديّ أربعة أطفال لكن ثلاثة فقط بصحبتي هنا الآن."
تتدفق العائلات المجتمعة إلى مخيم الهول للنازحين، في شرقي سورية قرب حدودها مع العراق، في الوقت الذي تتناقص فيه الرقعة الواقعة في قبضة "الدولة الإسلامية" تدريجيًا. هذه العائلات منبوذة من أركان العالم، بل لا يُنظر إليهم بوصفهم بشرًا.
والأطفال، على وجه الخصوص، كأنما سقطوا في هوة زمنية، فهم لا يحصلون على تعليم مدرسي، وأمامهم مرافق صحية محدودة، أما مستقبلهم فهو والإبهام سواء. لم يختر طفل من هؤلاء مكانه الذي وصل إليه. ولم يختر أحد منهم أن يكون في هذا الوضع. وكلي أمل ألّا يتعرضوا لعقاب قاس على المدى البعيد، فيدفعوا ثمن قرارات اتخذها آباؤهم.
القصص التي تلتها الأمهات على أسماعنا هنا تقشعرّ لها الأبدان. قصةٌ عن كيف اضطرت العائلات إلى الهرب من رصاص القناصة في أثناء السفر ليلًا. وقصةٌ عن كيف رأى طفل شيئًا على الأرض ظنه طعامًا فاقترب ليلتقطه؛ كان لغمًا أرضيًا انفجر في ساقيه.
وحكى شخص عن امرأة حامل كانت تفرّ عبر حقل ألغام فوطئت جهاز تفجير. بعد أن أصيبت ودخلت في حالة صدمة، بدأت وضع جنينها. كان وقتًا عصيبًا، تجربةً يجب ألّا تخوضها أي امرأة حامل قط.
سافرتُ مرارًا إلى الأجزاء الشمالية الشرقية من سورية. وتحدثتُ إلى رجال ونساء كثيرين في المخيمات الواقعة هناك. سلّمنا لهم آلافًا من رسائل الصليب الأحمر – خطابات لأفراد العائلة – وأنصتنا لآلام الناس، بأعين بصيرة وأيدٍ يعوزها الكثير كي تخفف تلك الآلام.
أما المحاورة الأكثر التصاقًا بثنايا ذاكرتي فكانت مع امرأة فتحت لي قلبها كما لو كنا أصدقاء منذ أمدٍ بعيد. لقد زرتُ بلدها في يوم أجازة. وما من شيء في قرية "الهول" له ما يشبهه خارجها. كان لدى السيدة الكثير لتحكيه مما لا يسعه صدرها، فلم يكن حديثًا مرتبًا ترتيبًا زمنيًا إنما تيارًا واعيًا من الكلمات. بدأت تحكي وأنصت لها. كانت بحاجة إلى أن تتحدث إلى شخص لا يفاتحها بسؤال عن اسمها وتاريخ ميلادها. تشاركنا نحن الاثنان رابطة إنسانية في تلك اللحظة، وهو ما أظن أن الناس هنا بحاجة إليه: شخص ينصت إليهم لا شخصًا يحكم عليهم.
أخبرتني سيدة أنها لم ترَ ثمرة بطاطس منذ أربعة أشهر. وقالت لي بعض السيدات إنهن كن يغلين العشب ويصنعن منه حساء.
جميعهن قلن إنهن وقعن في حبائلِ عالَمٍ لا يملكن فيه أية قوة أو سلطة.
رأت هؤلاء النسوة جميعهن أننا كنا بجانبهن لا لنحكم عليهن، وأظن أن هذا المنحى هو أحد أفضل الأشياء التي تقدِر اللجنة الدولية للصليب الأحمر على تقديمها لهذه العائلات. قلوبنا يملؤها الاهتمام بغض النظر عن أي شيء. ونرى الناس بشرًا. وإذا كان الناس في احتياج للمساعدة فنحن نحاول أن نمد لهم يد العون.
وقد سمعنا الأسئلة ذاتها تعاد على مسامعنا مرةً بعد مرة: "هل تظنون أن بلدي سيسامحني؟" "هل تظنون أن بإمكاني العودة؟ أطفالي يحتاجون إلى المدرسة."
تكلم بعض مندوبي اللجنة الدولية مع أشخاص في المخيم على مدار أسبوع، فأنصتوا إلى ما أعرب عنه هؤلاء في ما يتعلق بأشد احتياجاتهم إلحاحًا، وعملوا على ربطهم بأقاربهم الذين فقدوا الاتصال بهم. بعض هؤلاء الأقارب ما يزالون في مكان ما في سورية أو العراق، والبعض الآخر مشتتون في أرجاء العالم. وخطواتنا التالية هي: محاولة العثور على أقاربهم بمساعدة اللجنة الدولية وجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وكفالة حصولهم على المساعدات الغذائية التي تفي باحتياجاتهم والمأوى وكذلك الرعاية الصحية.
برد الشتاء هنا ينخر العظام، لدرجة أن بعض التقارير تحدثت عن وفاة أكثر من عشرين طفلًا بسبب البرد في الأسابيع الماضية. القاطنون في المخيم يلتحفون بطبقات من الملابس، فلا وجود لحوائط تحميهم من لفحات البرد. بل إن البعض لا يملكون خيامًا. يعيشون في العراء تحت رحمة تقلبات الجو.
وتوزع اللجنة الدولية آلاف زجاجات المياه يوميًا، وتجلب للمحتاجين خيامًا. كما بنينا أيضًا مطبخًا ووظفنا طباخين لإعداد الوجبات الساخنة. وفي بعض الأحيان قد لا يحتاج المأزومون سوى وجبة ساخنة تحفظ بداخلهم جذوة الحياة.
ونحن نعمل أيضًا للوصول إلى معلومات بشأن أفراد العائلة الذين خُلِّفوا في الديار، وهم غالبًا أزواج أو أخوة أو أبناء. في هذا المخيم يعيش عشرات الآلاف، ولا وجود تقريبًا لذكور فوق سن 16. وهذه أعداد هائلة من أفراد العائلات التي تشتت شملها ويتعين البحث عنهم.
مصير هذه العائلات – من أوروبا وأماكن أخرى – في علم الغيب. البلد الأم لا يمكن أن يدير ظهره لمواطنيه. والبشر لا يمكن أن يبقوا بلا هوية قومية أو يتركوا معلقين هكذا. الأمن والمساءلة عنصران مهمان لكن على القدر نفسه من الأهمية أيضًا يجب أن يُعامَل الناس بإنسانية.
لقد زرت مخيمات كثيرة في إطار عملي مندوبًا لدى اللجنة الدولية. وغالبًا ما رأيت الناس يحتاجون للمساعدات الغذائية أو المياه أكثر مما يحتاجون أي شيء آخر. لكن كانت هذه إحدى المرات النادرة التي أصادف فيها احتياج الناس لمعرفة أخبار ذويهم أكبر من احتياجهم للغذاء.
لقد خسر هؤلاء النسوة الكثير لكن يبقى لهن فلذات أكبادهن. وهؤلاء الأطفال هم أغلى ما يمتلكن، وهم السند لهن في التكيف والصمود. هؤلاء الأطفال لم يقترفوا ذنبًا. وأمهاتهم يتشبثن بأهداب أملٍ مخاتلٍ بأن يكون لأطفالهن مستقبل.
جون نيقولا باكيه-رولو، نائب رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية