السيد الرئيس، شكرًا لكم على إتاحة الفرصة لي لأكون معكم اليوم.
السادة الوزراء والزملاء الأعزاء، لقد طرأت في السنوات الأخيرة تغيرات سريعة على شكل النزاعات أسفرت عن ثمــــن باهظ يتكبده عشرات الملايين من النساء، والرجال، والأطفال في جميع أنحاء العالم.
وهم يعانون من آثار مباشرة متمثلة في الموت والإصابة الجسدية والنزوح، فضلًا عن أضرار غير منظورة مثل الصدمات النفسية والعنف الجنسي وفقدان أفراد من العائلة.
في حروب اليوم، يشارك في القتال طائفة واسعة من القوات المسلحة والقوات الخاصة والجماعات المسلحة والجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية إما بشكل مباشر أو بالوكالة، علنًا أو سرًا.
وتتعدى هذه النزاعات والأطراف المشاركون فيها حدود الدول، كما أن المعارك تُخاض في مناطق مأهولة بالسكان، ما يُعرّض حياة آلاف المدنيين للخطر ويدمر البِنى الأساسية الحيوية.
تضم الحروب غالبًا شركاء وحلفاء، وهو ما يسفر عن ضياع المسؤولية، وانفراط سلاسل القيادة، وتدفق الأسلحة بلا رقابة. ولا يؤدي هذا كله إلا لإفلات مرتكبي الجرائم من العقاب والتسبب في النهاية في مزيد من المعاناة.
ومع غياب الحلول السياسية، لا ينفك أمد الحروب يطول عامًا بعد عام بانتشار العنف والاضطرابات، فتُرَسّخ مشاعر الاستياء، وتُعمَّق حالة الهشاشة.
عندما أتحدث مع العائلات التي تعيش حاليًا وقائع الحرب والعنف، غالبًا ما أُسأل، "لماذا وقعت الحرب؟ وكيف يُسمح بوقوعها؟".
في هذه المواقف المأساوية، غالبًا ما تكون الحاجة إلى العمل الإنساني ملحة للغاية.
خلال عمليات اللجنة الدولية، وجدنا أن العمل الإنساني المحايد والمستقل وغير المتحيز يمتلك أفضل مقومات الوصول إلى الفئات الأشد احتياجًا. والعمل الإنساني المتصف بهذه الصفات يجسد الصيغة المجرَّبة والمثبتة التي من شأنها أن تحول دون استغلاله لتحقيق خطط سياسية كبيرة وخلافية.
لكن في الكثير من الأماكن حول العالم، يرزح حيز العمل الإنساني غير المتحيز تحت وطأة التهديد.
فتُمتهن الكرامة الإنسانية، وتثار الشكوك حول انطباق القانون، وتُسيّس المساعدات الإنسانية وتُستغل عن عمد لتحقيق مآرب سياسية أو للسيطرة على السكان. كما تهدم الهجمات الإرهابية، وهي بطبيعتها عشوائية، مفاهيم التناسب والاحتياط والتمييز التي لا بد أن تشكل صميم الأنماط السلوكية في أثناء القتال. علاوة على ذلك، تؤدي أنظمة العقوبات المُحكمة وتدابير مكافحة الإرهاب إلى إعاقة العمل الإنساني المحايد وغير المتحيز.
ويتزايد الضغط الواقع على المنظمات الإنسانية باحتجاز كل من الدول والجماعات المسلحة من غير الدول السكان المدنيين والأطراف الفاعلة في المجال الإنساني بهدف الحصول على فدية لتحقيق أهدافها.
غير أن المنظمات الإنسانية لم تُنشأ من أجل تأييد طرف ما، أو إضفاء الشرعية، أو مساعدة السلطات في تحقيق أهدافها السياسية، فاللجنة الدولية تعمل على مساعدة الدول على الوفاء بالالتزامات التي وقَّعت عليها، وليس على المراوغة والتملّص منها.
عندما تُنتهك مبادئ عدم التحيز، ويُعاق العمل الإنساني، تتضور عائلات - مثل تلك التي قابلتها - جوعًا وتمرض وتتعرض لإساءة المعاملة. لا عجب في أن هذه العائلات تتساءل عن سبب معاناتها.
ونشهد اليوم كذلك تحولًا في التصوّر المتعلق بالقانون الدولي الإنساني وأنشطة الحماية، فالقانون الدولي الإنساني لا يعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل، فهو يسري حتى إذا أخفق الخصم في الامتثال للقانون.
وهو يعتمد على وجود تفاهم توافقي بين الأطراف المتحاربة بأن ثمة حدودًا للحروب، وبوجوب وجود حيز إنساني محايد وغير متحيز يتمتع فيه غير المشاركين في الأعمال العدائية بالحماية. أما هؤلاء الذين ينكرون هذا الحيز، فهم ينكرون جوهر القانون ذاته.
إن اتفاقيات جنيف ليست محلًا للتفاوض، فهي تعكس بلغة معيارية الممارسات التي جرَّبَتها المجتمعات عبر الزمن؛ وهذه الاتفاقيات بمثابة قانون عرفي ويجب الاسترشاد بها في الإجراءات العملية.
كما أنها بمثابة أداة، وأساس موثوق به لمد جسور الثقة وإجراء الحوار، ما يتيح بناء توافق في الآراء بين الأطراف المتحاربة.
على سبيل المثال، أُبرمت اتفاقات بوساطة بشأن الأشخاص الذين فُقدوا أثناء الحرب، يجري على إثرها نقل الأخبار إلى العائلات المكلومة بفقد ذويها على الجوانب المختلفة، أو تبادل رفات الموتى.
فيمكن لهذه الاتفاقات، التي تيسر عقدها في حيز محايد ومستقل، أن تمثل خطوات أولى لبناء أواصر الثقة وصياغة ترتيبات أخرى لتخفيف معاناة الناس، كأن يجري مثلًا تبادل المحتجزين، والتواصل بين أفراد العائلة عبر خطوط المواجهة، وغير ذلك الكثير.
مع تزايد شَغل الجهات الفاعلة السياسية حيز العمل الإنساني، يجب على العاملين في المجال الإنساني البحث عن سُبل عملية لتنفيذ مهمتنا في هذه البيئة التي صارت اليوم أكثر تعقيدًا. وسرعان ما زادت أهمية الدور الذي يضطلع به مفاوضو الشؤون الإنسانية على خط المواجهة لحشد الدعم للعمل الإنساني.
تعمل اللجنة الدولية عبر مركز الاختصاص بشأن المفاوضات المتعلقة بالشؤون الإنسانية على بناء معارف نُظُمية وشبكات من المفاوضين المحترفين لوضع استراتيجيات وممارسات أكثر تكيّفًا مع العمليات الميدانية في وقتنا الحالي.
الزملاء الأعزاء، إن الدفاع بضراوة عن العمل الإنساني القائم على المبادئ وحمايته هي مهمة يتحمل مسؤوليتها المجتمع الدولي، ونناشدكم أن تضعوا الخطوات التالية ذات الطابع العملي للغاية في الاعتبار:
مقاومة أي محاولة لتحويل العمل الإنساني القائم على المبادئ إلى أداة، أو التلاعب به، أو تسييسه. كما يجب عدم رفض وصول المساعدات الإنسانية أو احتجازها بشكل غير قانوني، لا سيما إذا كان الناس يعانون من عدم تلبية احتياجاتهم الأساسية.
بينما تمتلك المنظمات المحايدة وغير المتحيزة، مثل اللجنة الدولية، وفقًا لاتفاقيات جنيف، الحق في اقتراح تنفيذ العمل الإنساني على الدول، فالدول من جانبها عليها التزام بتيسير هذا العمل، ما لم تقيدها شواغل أمنية مسوَّغة.
ونطلب منكم التصدي للمعايير المزدوجة التي تنزع الشرعية عن القانون وتُضعف قدرته على الحماية. فالسياسة تدور حول الأولويات المختلفة التي تتبنونها كدول، ونتفهم جيدًا مدى صعوبة مواءمة مواقفكم في الساحة الدولية حاليًا. لكن الحفاظ على حيز إنساني يعني احترام القانون الذي وافقتم عليه من قبل بتوافق الآراء، وليس إساءة استخدام القانون لإثبات موقف سياسي.
لذلك، نطلب إليكم أن تكونوا قدوة يُحتذى بها وأن تحترموا بثبات التزماتكم بموجب القانون الدولي الإنساني، وهذا يعني ممارسة التأثير الإيجابي في العمليات العسكرية الفردية أو المشتركة لضمان التطبيق السليم للقواعد المتعلقة بسير الأعمال العدائية، وحماية المدنيين والمرافق الطبية، ومعاملة المحتجزين معاملة إنسانية.
ونطلب إليكم تدريب قواتكم وقوات شركائكم وتوجيه هذه القوات بحيث يتسنى لها التعرف إلى القانون وكيفية احترامه، والتدقيق والإشراف من خلال الهياكل والعمليات والآليات المناسبة في العمليات القتالية التي تشتركون فيها أنتم وشركاؤكم، إلى جانب وضع آليات مُساءلة من أجل ضمان احترام القانون.
أما في ما يخص انتشار الأسلحة، فنحثكم على اتخاذ الضمانات والاحتياطات اللازمة، وعدم نقل أي أسلحة حال وجود خطر واضح بأن استخدامها سيسفر عن انتهاك القانون الدولي الإنساني.
ونطلب منكم كذلك تسيير الأعمال العدائية على نحو يحمي المدنيين ويضمن احترام المبادئ الأساسية، ألا وهي التمييز والاحتياط والتناسب، وأن تجسد التوجيهات الميدانية التي تتبعونها أنتم وشركاؤكم هذه المبادئ في العمليات القتالية.
ومن بين الشواغل ذات الأهمية الخاصة استخدام الأسلحة المتفجرة، إذ تشهد اللجنة الدولية وقوع خسائر مدنية هائلة من جراء التفجير والقصف، لا تتضمن فحسب وقوع وفيات وإصابات جسدية، لكن أيضًا أضرارًا طويلة الأمد تلحق بالبنية الأساسية المدنية الحيوية.
ونناشد جميع الأطراف المنخرطة في نزاع مسلح تجنب استخدام أسلحة متفجرة ذات آثار واسعة النطاق في المناطق المأهولة بالسكان، نظرًا لارتفاع احتمالية تسببها في آثار عشوائية.
ولدعم هذه الجهود القيادية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني، تُعد اللجنة الدولية خارطة طريق لهذا القانون لتُعتمد في المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر المزمع عقده في تشرين الثاني/نوفمبر. ونتطلع إلى العمل مع الدول والجمعيات الوطنية حول تعهدات احترام القانون الدولي الإنساني وتنفيذه.
السادة الوزراء والزملاء الأعزاء، إن الخناق يشتد على مجال العمل الإنساني.
ومع هذا، فقد شهدنا بعض الخطوات الإيجابية التي من بينها حدوث زيادات متواصلة في مستويات تمويل العمل الإنساني، والإقرار بوجوب توافق تدابير مكافحة الإرهاب مع الالتزامات التي ينص عليها القانون الدولي الإنساني.
ومن الأمثلة على ذلك، قرار مجلس الأمن رقم 2462 الصادر مؤخرًا، إذ إن تنفيذه على المستوى الوطني من شأنه أن يمثل خطوة غاية في الأهمية للحفاظ على حيز إنساني في اللوائح الوطنية المعنية بمكافحة الإرهاب.
لكن لا ينبغي أن يكون السماح لنا بالعمل محلًا للنقاش، فهو أمر قد سبق البتّ فيه.
فمهمة حماية المدنيين ومساعدتهم في أوقات النزاعات المسلحة هي مهمة متفق عليها عالميًا منذ 70 عامًا مضت في اتفاقيات جنيف. وندعو الدول أن تمضي قدمًا وتؤكد من جديد على أهمية هذه المهمة، ليس بالكلمات فحسب بل من خلال اتخاذ إجراءات ملموسة وعاجلة.
أشكركم شكرًا جزيلًا.