"لا زلت أبحث عنهم"

مساعدة العائلات الموزمبيقية المتضررة من جرَّاء إعصاري إيداي وكينيث
مقال 12 أيلول/سبتمبر 2019 موزمبيق

 

كان الليل قد انتصف عندما استيقظ "غابريل سلفادور مابوندا" على صوت الأمطار الغزيرة والرياح العاصفة، ليجد المياه قد تسربت داخل منزله، فأيقظ زوجته وأطفاله، وانطلقت العائلة المكونة من اثنى عشر فردًا سيرًا على الأقدام في الظلام بحثًا عن أرض مرتفعة.

صادفوا خلال سيرهم في المياه الآخدة في الارتفاع شجرة مافوريرا فتسلقوها، لكن الراحة التي شعروا بها لم تدم طويلًا، إذ بدأت الأغصان تتكسر بفعل الرياح الهوجاء. واستطاع "غابريل" الإمساك ببعض أفراد عائلته لكن آخرين تشتتوا عن الجمع.

صادف "غابريل" أشخاصًا يبحثون عن ناجين، فاصطحبوه وعائلته إلى مكان آمن. في اليوم التالي، جيء بزوجته وأطفاله إلى المكان نفسه لكن أحدهم كان مفقودًا.

 

(يبحث غابريل سلفادور مابوندا عن أربعة من أفراد عائلته ذهبوا في عداد المفقودين عندما ضرب إعصار إيداي وسط موزمبيق في شهر آذار/مارس 2019).

أطلعته زوجته على الأخبار الحزينة، إذ أثناء محاولتها جمع كل الأطفال على الشجرة، تملّك إحدى بناتها الذعر ظنًا منها أن والدتها ستتركها فقفزت من على الشجرة وانجرفت بعيدًا.

تحدثتُ إلى "غابريل" بعد مرور أسبوعين على إعصار إيداي الذي مزق أوصال منطقة وسط موزمبيق في منتصف آذار/مارس. كان يعيش مع عائلته داخل مدرسة مع عائلات أخرى فقدت منازلها، وكان لا يزال يبحث عن ابنته، كما كان هناك ثلاثة أقارب آخرين في عداد المفقودين.

تحدَّث "غابريل" إليّ قائلًا: "أشعر أنني فقدتُهم إلى الأبد فقد مرت أيام عديدة، لكني لا زلت أواصل البحث عنهم، حتى دون بارقة أمل، لا زلت أبحث عنهم".

رغم مرور ستة أشهر على حديثي مع "غابريل"، فستظل كلماته عالقة في ذاكرتي مدى الحياة. اسمي "خديجة نيكلانا" وأعمل في اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) في جنوب أفريقيا. بعد أسبوع من هبوب الإعصار، سافرتُ إلى موزمبيق برفقة فريق طب شرعي للّجنة الدولية لتقديم المساعدة للمجتمعات المتضررة.

كانت الاحتياجات هائلة، فقد خلَّفت العاصفة أكثر من 1000 قتيل وتضررت حياة ما يزيد على 3 ملايين شخص عبر موزمبيق وزيمبابوي ومالاوي.
تلقى فريق الطب الشرعي العديد من البلاغات حول وجود جثث، وكلما ابتعدنا عن مدينة شيمويو التي اتخذناها قاعدةً لعملياتنا، شاهدنا المزيد من الدمار.
كانت جدران المنازل ملطخة بالوحل، ما يدل على الارتفاع الكبير الذي وصلت إليه المياه، وعلِق الحُطام بخطوط توصيل الكهرباء، كما انهارت الطرق، ما أدى إلى تعذر الوصول إلى بعض القرى، بل أن الوحل ابتلع سيارة الدفع الرباعي التي كنا نستقلها، ولم نستطع تحريرها لأكثر من تسع ساعات. لكن تجربتنا هذه لم تكن سوى لمحة موجزة عن الواقع الذي واجهه السكان.
استضافنا ثلاثة مزارعين يُدعون "كوبوس" و"مايك" و"جيل" لقضاء الليلة عندهم، وطهوا لنا طعامًا. كان هناك 15 مجموعة أخرى من المجتمع المحلي تنصب خيامها في الحديقة لاستعراض أعمال التنظيف التي جرت طوال اليوم والتخطيط لعمل الغد. كان هؤلاء المستجيبون الأوائل من المجتمع المحلي ينقذون العائلات من الأشجار ويوفرون لهم المأوى في مزرعتهم، وكانت طيبتهم وكرمهم مثيرة للإعجاب.
في الصباح، سحب جرار سيارتنا من الوحل. كنا بعد ذلك نترجل من السيارة ونسير على أقدامنا متى رأينا الطريق مُوحلًا.

دفن آمن وكريم

سرعان ما علمنا أن أفراد المجتمع المحلي يدفنون الأشخاص حيثما عثروا عليهم. وبالطبع أراد فريق الطب الشرعي الوصول إلى أكبر قدر ممكن من مواقع الدفن هذه لإطلاع أفراد المجتمع المحلي على بعض المهارات الأساسية المتعلقة بالاستخراج السليم للرفات البشرية، وكذلك لضمان إجراء عمليات الدفن بطريقة كريمة ولائقة. كما قدم الفريق معدات حماية، مثل قفازات، وأكياس جثث، وأدوات حفر، وشواهد للقبور لضمان عدم العبث في مواقع الدفن هذه لاحقًا.
مشينا في المياه الموحلة التي وصل عمقها إلى مستوى الرُّكبة آخذين حذرنا من التماسيح وأفراس النهر التي حصدت أرواح السكان المحليين. الوحل أسفل المياه كان سميكًا للغاية لدرجة أنه التصق بحذائي وتسبب في خروجه من قدمي. فتطلبت منا كل خطوة نخطوها جهدًا بدنيًا، وشعرنا أن كل كيلومتر نقطعه بمثابة عشرة، كما كانت حرارة الجو لا تُحتمل. وسرعان ما أدركت أنه متى أشار لنا أحد السكان مشجعًا بما يدل أن وجهتنا أصبحت قريبة، فإن هذا قد يعني أننا لا نزال على بُعد عشرة كيلومترات من القرية.
وبينما شرعت مياه الفيضانات في الانحسار، بدأت الجثامين في الظهور على السطح.
أتذكر صباح يوم 29 آذار/مارس بوضوح، إذ أبلغ أحد السكان في موتارارا القريبة من دومبي عن عثوره على جثة أخرى.
قدنا السيارة إلى أبعد مسافة يمكن قطعها بالسيارة، ثم تابعنا تقدمنا إلى مكان الجثة سيرًا على الأقدام. وكان قد انضم "مانويل صامويل" و"تيريزا صامويل" و"ماريا غيمو" إلى مجموعتنا بحثًا عن قريبتهم المفقودة: "فوستينا أراوجو" البالغة من العمر 16 عامًا.
سرنا معًا نحو ستة كيلومترات حتى وصلنا إلى بحيرة، ثم أشار أحد السكان إلى وسطها موضحًا موقع الجثة.
في زورق متداعٍ يتسع لشخصين، جدفت تيريزا وأحد السكان إلى الموقع. من الضفة، شاهدتُها تومئ برأسها قبل أن تنفجر في البكاء. انتحبت تيريزا أثناء توجهها إلى الضفة قبل أن تعانق أفراد عائلة الفتاة المفقودة عناقًا حارًا.
ذهب"ستيفن فونسيكا" المدير الإقليمي لخدمات الطب الشرعي التابع للجنة الدولية لاستخراج الجثة، وسيطرت علينا الكآبة حين قام نحو اثنى عشر رجلًا بحفر قبر. لقد توالات الأحداث سريعًا، ولم يكن لدي الوقت الكافي، ولستُ سوى مجرد متفرجة، لاستيعاب كل هذا.
رغم الخسارة الفادحة التي مُنيت بها العائلة، فقد توقفت أخيرًا رحلة البحث، وأخيرًا كفوا عن القلق والتساؤل عن مصير قريبتهم. ودفنوا "فوستينا" بشكل كريم ولائق، ليشعروا بما يشبه السلام النفسي.

(ماريا غيمو تبكي موت زوجة ابنها فوستينا أراوجو. فُقدت فوستينا منذ ضرب إعصار إيداي وسط موزمبيق في آذار/مارس 2019. ولم يُعثر على جثمانها سوى بعد مرور أسبوعين وأكدت عائلتها هويتها).

 

عاصفة ثانية: إعصار كينيث

بينما كانت المجتمعات المحلية وسط موزمبيق لا تزال تتعافى من آثار إعصار إيداي، لاحت في الأفق عاصفة ثانية كان يُتوقع أن تكون أشد وطأة من سابقتها. فبعد مرور ستة أسابيع فقط، وصل إعصار كينيث إلى اليابسة، وضرب هذه المرة مقاطعة كابو ديلغادو، وهي منطقة تعيش حالة من الاضطراب من جرَّاء العنف المسلح.
أثرت الفيضانات على مدينة بيمبا، ومناطق ماكوميا وكيسانغا، وإيبو، لكن هذه المرة كان الجميع أكثر استعدادًا حيث تم إجلاء الكثير من المجتمعات المحلية.
في رحلة العودة إلى موزمبيق، جلستُ إلى جوار شخص من مدينة بيمبا، حياني قائلًا "بوا تاردي" أي مساء الخير بالبرتغالية أثناء ربطه لحزام مقعده. وأخبرني أن العنف المسلح في موطنه قد سلب حرية السكان. وأعرب عن حسرته قائلًا: "اعتدتُ أن أصطحب أطفالي في زيارات خارج بيمبا؛ لكن ليس بوسعنا ذلك الآن".
بعد الهبوط من الطائرة، وزعت فرق اللجنة الدولية إمدادات إغاثة على المجتمعات المحلية القاطنة في الجزر، وهو ما تطلب منا القيام برحلة بالقارب استغرقت أربع ساعات. لم يكن بوسعي إخفاء إعجابي بجمال الجزر حتى حين تذكرت أن سكانها واجهوا الكثير من الدمار.

 

(متطوعون من جمعية الصليب الأحمر الموزمبيقي ينقلون إمدادات إغاثة من قارب سريع إلى جزيرة ماتيمو حيث فقد السكان منازلهم وممتلكاتهم عندما ضرب إعصار كينيث موزمبيق في نيسان/أبريل 2019).

 

حتى وقتنا هذا، قدمت اللجنة الدولية إمدادات إغاثة ضرورية إلى ما يزيد على 3000 عائلة فقدت منازلها وممتلكاتها من جرَّاء إعصار كينيث، فضلًا عن عملها جنبًا إلى جنب مع الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر (الاتحاد الدولي) وجمعية الصليب الأحمر الموزمبيقي. في وسط موزمبيق، قدمت اللجنة الدولية وجمعية الصليب الأحمر الموزمبيقي الإمدادات الضرورية لإغاثة ما يقرب من 10000 أسرة، ومساعدات غذائية لما يزيد على 22000 أسرة، فضلًا عن توفير البذور والأدوات الزراعية لأكثر من 13000 أسرة لمساعدتها على إعادة بناء حياتها.

وإذ نتأمل قصة مأساتين، بعد مرور ستة أشهر على إعصار إيداي وخمسة أشهر على إعصار كينيث، نواصل تقديم الدعم للمجتمعات المحلية لمساعدتها على إعادة بناء حياتها. وبينما يعود الكثيرون إلى زراعة محاصيلهم وإعادة بناء منازلهم، فإن هؤلاء الذين فقدوا أحباءهم لن تعود ديارهم كما كانت.

كثيرًا ما أفكر في "غابريل" وقصة ابنته التي قصها عليّ، وأتساءل عما إذا كان عثر عليها، وعما إذا كان عثر على أفراد عائلته الثلاثة الذين كان يبحث عنهم، وعما إذا كانت صدمته النفسية ستطول.

 

("لقد تلقينا الكثير من المساعدات؛ البطاطين وكل ما نحتاجه، ونحن ممتنون للغاية". "تيما شريف" من جزيرة ماتيمو، وهي إحدى المناطق التي تضررت بشدة من إعصار كينيث).