البوسنة والهرسك: البحث عن الأشخاص المفقودين
30-06-1996 مقال، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد312، بقلمكريستوف جيرو
كريستوف جيرو هو نائب المندوب العام للجنة الدولية للصليب الأحمر لوسط وغرب أوروبا ومنطقة البلقان
لكل حرب نصيبها من الأشخاص المفقودين سواء العسكريين أو المدنيين. ولكل شخص أبلغ عن فقده عائلة تبحث عنه وتنتظر أخباره بشغف. وهذه العائلات لا يمكن تركها في هذه الحالة من الكرب. فالحقيقة, مهما كانت مؤلمة, هي أفضل من عذاب الشك أو الآمال الكاذبة. وقد تأثر المدنيون في البوسنة والهرسك بشكل خاص بنزاع اتبع المحاربون فيه سياسة التطهير العرقي عن طريق طرد جماعات الأقليات من مناطق معينة. وثمة آلاف من الأشخاص الذين اختفوا أثناء القتال أو زج بهم في السجون أو تم إعدامهم أو ذبحهم بدون محاكمة, ما زالت عائلاتهم تبحث عنهم.
من هو الشخص المفقود ؟
يضم القانون الدولي الإنساني عدة أحكام تنص على أن للعائلات الحق في معرفة مصير أقربائها المفقودين, وأنه يتعين على الأطراف المتقاتلة استخدام كل السبل المتوفرة لها لتقديم المعلومات لهذه العائلات[1 ] . وبعد أخذ هذين المبدأين الرئيسيين بخاصة كأساس للعمل, أنشأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مختلف الآليات لمساعدة العائلات التي تعاني لوعة الشك من مصير أقاربها, حتى بعد توقف القصف بالمدافع.
في أي نزاع, تبدأ اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمحاولة تقييم مشكلة الأشخاص المفقودين. فيطلب من العائلات التي لم تتلق أخباراً عن أقاربها ملء طلبات للبحث عن المفقودين تصف فيها الظروف التي شوهد فيها الشخص المطلوب البحث عنه آخر مرة. ثم يقدم بعد ذلك كل طلب إلى السلطات التي كانت آخر من اتصل بها الشخص المفقود. وتعني طريقة العمل هذه أن عدد الأشخاص المفقودين لا يتفق والعدد الفعلي لضحايا النزاع - وهو حصر مخيف لا تنوي اللجنة الدولية للصليب الأحمر القيام به. وقد تقدمت حتى الآن أكثر من 000 10 عائلة في البوسنة والهرسك بطلبات للبحث عن أشخاص مفقودين إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أو إلى الصليب الأحمر الوطني أو جمعيات الهلال الأحمر في البلدان التي لجأت إليها.
اتفاقات السلام في البوسنة والهرسك
في بداية عام 1995 وفي أعقاب وقف إطلاق النار الذي قام الرئيس الأسبق للولايات المتحدة, جيمي كارتر, بالتفاوض عليه, جمعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بين الأطراف المتحاربة في العديد من المناسبات في مطار سراييفو وطلبت منها الرد على طلبات البحث عن المفقودين التي قام مندوبوها بجمعها من العائلات. ومع ذلك, كانت النتيجة العملية الوحيدة التي حققتها هي تمكنها من تقديم شرح مفصل لما قد يمثل رداً موثوقاً فيه ومرضياً.
وتشاورت الولايات المتحدة والمنظمات الإنسانية الرئيسية قبل صياغة نص اتفاق الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك, الذي تم التفاوض عليه بين الأطراف في دايتون بولاية أوهايو في خريف 1995. كما ناقشت الولايات المتحدة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر مسألة إطلاق سراح المحتجزين والبحث عن الأشخاص المفقودين. وتتناول أولى هذه المسائل المرفق الخاص بالنواحي العسكرية لتسوية السلام, وتتناول المسألة الثانية نصوص الاتفاق الإطاري الخاص بالمدنيين. لهذا فإن المادة 5 من المرفق 7 للاتفاق تنص على ما يلي: تقدم الأطراف معلومات عن جميع الأشخاص مجهولي المصير من خلال آليات البحث عن المفقودين الخاصة باللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتتعاون الأطراف أيضاً بالكامل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جهودها الرامية إلى تحديد هوية الأشخاص مجهولي المصير وأماكن إقامتهم ومصيرهم " . وتعتمد أحكام هذه المادة المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني وتؤكدها.
كذلك يوكل الاتفاق الإطاري إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر مهمة تنظيم ومراقبة عملية إطلاق سراح ونقل كل السجناء المدنيين والعسكريين المحتجزين على ذمة النزاع وذلك بالتشاور مع الأطراف المعنية. وقد أدت اللجنة الدولية هذه المهمة بالتعاون مع قوة التنفيذ التي أوكل إليها تنفيذ الأحكام العسكرية للاتفاق الإطاري.
أعمال اللجنة الدولية للصليب الأحمر
بالرغم من مقاومة أطراف النزاع, تم إعادة أكثر من 000 1 سجين إلى منازلهم. وخلال العملية التي دامت نحو شهرين, رفضت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بثبات الربط بين عملية إطلاق سراح السجناء ومشكلة الأشخاص المفقودين, مثلما رفضت التورط في لعبة المعاملة بالمثل التي اعتادت الأطراف ممارستها أثناء النزاع. وقد تأكد نجاح العملية أيضاً من جانب المجتمع الدولي الذي اقتنع بأن اللجنة الدولية تسلك النهج الصحيح وقام بالضغط على الأطراف حتى تتعاون معاً. وحيث إن الكثيرين من المحتجزين تم حجبهم عن اللجنة الدولية, وكانت عائلاتهم تبحث عنهم بالتالي, فقد كان من المهم إخلاء السجون ممن فيها قبل تناول مسألة الأشخاص المفقودين.
وبناء على الاتفاق الإطاري العام للسلام في البوسنة والهرسك, اقترحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن يقوم المتقاتلون السابقون بتشكيل " جماعة عمل خاصة بعملية البحث عن الأشخاص مجهولي المصير فيما يتصل بالنزاع في أراضي البوسنة والهرسك " - وهو عنوان طويل يعكس طبيعة المفاوضات السياسية التي أدت إلى تأليف هذه الهيئة. وبينما أيدت الأطراف الاقتراح نفسه, اشتبكت في مجادلات لا نهاية لها حول صياغة اللائحة الداخلية والاختصاصات التي أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ومع ذلك, فقد التقت مجموعة العمل التي ترأسها اللجنة الدولية, ثلاث مرات بالفعل في مكتب الممثل الأعلى للبوسنة والهرسك في سراييفو [2 ] وذلك بحضور سفراء مجموعة الاتصال الخاصة بالبوسنة والهرسك [3 ] وممثل الدولة المترئسة للاتحاد الأوربي [4 ] وممثلي كرواتيا و جمهورية يوغوسلافيا الفيدرالية. كما حضر هذه الاجتماعات ممثل قوة التنفيذ وخبير الأمم المتحدة المعني بالأشخاص المفقودين في يوغوسلافيا السابقة [5 ] .
وبالرغم من جلسات العمل العامة والثنائية الأطراف والمتعددة, استحال التوصل إلى اتفاق بين الطرفين فيما يتعلق بالمشاركة والتمثيل (والسؤال محل البحث هو ما إذا كان المقاتلون السابقون هم الأطراف نفسها التي وقعت الاتفاق الإطاري أم لا) أو قبول اللائحة الداخلية بصورة رسمية. ومع ذلك, فقد تم الاتفاق على اللائحة الداخلية بصورة ضمنية في الجلسات العامة, مما جعل من الممكن البدء بالعمل الفعلي: فقد تم تقديم أكثر من 00 0 10 حالة مفصلة لأشخاص أبلغت عائلاتهم عن فقدهم إلى الأطراف التي يتعين عليها الآن تقديم الردود عليها.
وفي انحراف مشهود عن الإجراءات التي تتبع عادة في مثل هذه الحالات, اعتمدت مجموعة العمل قاعدة لا يتم بموجبها فقط تبادل المعلومات التي تحتويها طلبات البحث عن المفقودين والردود التي يطلب من الأطراف تقديمها تبادلاً ثنائيا بين العائلات والأطراف المعنية من خلال وساطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر, وإنما إيصال هذه المعلومات أيضاً إلى كل أعضاء مجموعة العمل, أي إلى كل المتحاربين السابقين وإلى الممثل الأعلى. والمقصود من سياسة الانفتاح هذه هو منع تسييس القضية, علماً أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تنوي متابعة هذه السياسة خاصة عن طريق إصدار مجلة تضم قائمة بأسماء كل الأشخاص المفقودين, ونشر هذه الأسماء على الإنترنت. ومن المرتقب أن يحفز ذلك شهود العيان المحتملين على الاتصال باللجنة الدولية للصليب الأحمر لموافاتها بالمعلومات الموثوقة عن مصير الأشخاص المفقودين, والتي يمكن للمنظمة إبلاغها بعد ذلك إلى العائلات المعنية.
لا شك أنه بعد كل حرب تسعى العائلات طلباً لأخبار أقاربها المفقودين, ودائماً تكون تسوية هذه المسألة قضية سياسية بالقدر الكبير. وأحد الأسباب هو أن قيام أحد الأطراف بتوفير المعلومات هو بمثابة اعتراف بأنه يعرف شيئاً مما يعطيه الشعور بأنه يقر باقتراف جريمة ما. وسبب آخر هو أن عذاب العائلات التي فقدت أقارب لها يؤدي عموماً إلى اتحادها وضغطها على السلطات للحصول على معلومات من الطرف الخصم الذي قد تغريه هذه العائلات على استخدامها لزعزعة استقرار الجانب المضاد.
مشكلة إخراج الجثث
كنتيجة مأساوية لأكثر من ثلاث سنوات من النزاع, امتلأت البوسنة والهرسك بالمقابر الجماعية التي دفن فيها آلاف من المدنيين كالحيوانات. وتعد مقابر سريبرينيتشا مثالاً رهيباً على ذلك. فقد زعمت العائلات المشردة في توزلا, والتي قابلتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر, أن القوات البوسنية الصربية قبضت على أكثر من 000 3 شخص بعد سقوط المدينة مباشرة في منتصف يوليو/ تموز 1995. وحيث إن السلطات في بالي رفضت بإصرار الإفصاح عما حدث لهؤلاء الأشخاص, فإن الل جنة الدولية قد خلصت إلى أنهم قتلوا جميعاً.
وتريد العائلات الآن استعادة جثث أقاربها المفقودين على أمل أن تتمكن من التعرف عليهم. وقبل القيام بذلك, لا بد من إنشاء قاعدة بيانات لما قبل الوفاة [6 ] لتجميع المعلومات التي يمكن عن طريقها مقارنة الأدلة الشرعية فيما بعد. وبين هاتين العمليتين, لا بد من إخراج الجثث, مع العلم بأن غالبية المقابر الجماعية في البوسنة والهرسك توجد على الجانب المقابل للحدود العرقية, مما يحول دون وصول العائلات والسلطات المختصة إليها.
كذلك تطالب العائلات بالقصاص. وهنا يأتي دور المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة, التي أنشأها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة, بينما كان القتال ما زال دائرا في البوسنة والهرسك. وتنوي المحكمة إخراج عدد من الجثث لتتحقق من سبب الوفاة ولتجمع البراهين والأدلة على ارتكاب المذابح, إلا أنها ليست مسؤولية المحكمة التعرف على الجثث أو الإعداد لدفنها بطريقة لائقة.
وفيما بين حاجة العائلات وحقها في معرفة مصير أقاربها المفقودين وضرورة القصاص, ترقد آلاف الجثث في مقابر جماعية. وبينما قد لا يكون من الممكن عملياً إخراج كل الجثث التي دفنت في البوسنة والهرسك والتعرف عليها [7 ] , فإنه يتعين تناول المشكلة الأخلاقية المتصلة بدفنها بالطريقة اللائقة. إلا أنه دون تعاون المتحاربين السابقين وقوة التنفيذ, فإن كل المناقشات تظل نظرية. ولن تزول الرغبة في الانتقام ويعود الإيمان بالسلام إلى كل فرد ويسود العدل كل مجتمع إلا عندما يحل السلام بقلوب الناس وتأخذ العدالة مجراها.
الحواشي:
1- المواد 15 و 16 و 17 من اتفاقية جنيف الأولى لعام 1949; والمادتان 122 و123 من الاتفاقية الثالثة; والمواد 26 و136 - 140 من الاتفاقية الرابعة, والمواد 32 و33 و34 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.
2- أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تعيين رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلد لهذا المركز قبل التوقيع بوقت قصير على الاتفاق الإطاري العام للسلام في البوسنة والهرسك في باريس في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1995. وكما كلفت قوة التنفيذ المكونة من قوات حلف شمال الأطلسي وقوات روسية بتطبيق الأحكام العسكرية للاتفاق الإطاري, فإن الممثل الأعلى مكلف بتطبيق أحكام الاتفاق الخاصة بالمدنيين.
3- الاتحاد الروسي وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
4- إيطاليا في وقت كتابة المقال.
5- مانفريد نوواك, الذي عينته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1994 في منصب الخبير المسؤول عن العمليات الخاصة بالأشخاص المفقودين في أراضي يوغوسلافيا السابقة.
6- قاعدة بيانات تضم كل المعلومات الطبية ذات الصلة والتي يمكن الحصول عليها من عائلات الأشخاص المفقودين.
7- طبقا لخبراء الطب الشرعي التابعين للمنظمة الأمريكية, أطباء حقوق الإنسان, والذين قاموا بإخراج الجثث من أجل المحكمة الجنائية الدولية التي شكلت في أعقاب المذابح المروعة في رواندا, فإن نسبة النجاح في التعرف على الجثث التي تم إخراجها من مقبرة تضم عدة مئات من الجثث لا تتعدى 10 إلى 20%, شريطة أن تتوفر قاعدة مفصلة للبيانات قبل الوفاة.