موظفو الإغاثة في اليمن... الباقون بمفردهم بعد رحيل الجميع
بقلم: مالكولم لوكارد وعدنان حزام
Malcolm Lucard هو رئيس تحرير مجلة "الصليب الأحمر والهلال الأحمر" وعدنان حزام هو موظف الاتصال ببعثة اللجنة الدولية في صنعاء.
- نُشر هذا المقال في العدد 59 من مجلة الإنساني-صيف 2015
*ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مجلة "الصليب الأحمر والهلال الأحمر".
"في قلب الليل، تناهت إلى مسامعي أصوات انفجارات مدوّية، أغمضت عينيّ محاولةً إقناع نفسي أنه مجرّد كابوس، لكنّ عقلي أبى إلا أن ينشغل بالتفكير في عدد أكياس حفظ الجثث التي سيحتاجونها في الغد. فمع شدّة دويّ الانفجارات، لا شك أنهم سيحتاجون إلى الكثير من هذه الأكياس".
كانت تلك بعض الأفكار التي جالت بخاطر فاطمة اليماني في إحدى الليالي منذ وقت ليس ببعيد. تستطرد اليماني الموظفة في قسم الحماية لدى بعثة اللجنة الدولية في صنعاء قائلةً: "في الصباح التالي، شرعت في إعداد كوب من القهوة الصباحية، مُحاولةً التظاهر بأن شيئًا لم يحدث، وعندئذٍ تذكرت أن الكهرباء مقطوعة منذ أسابيع عدة. كانت جميع الأجهزة الكهربائية في المطبخ قابعةً في صمتٍ مطبقٍ، تبادلني تلك النظرة المُحَدِّقة. سرت بمفردي في الشوارع الخالية محاولةً الوصول إلى مقر عملي. شوارع انكمشت فيها كل صور الحياة، بعد أن كانت تضجّ بحركة السيارات، خلت الآن تمامًا من السيارات ومن المارّة، بغياب الوقود. عندها فكرت في اللجوء إلى مصادر أخرى للطاقة قد تُعيد الرّوح إلى هذا السكون الذي يُغلّف كل شيء من حولي."
كان هذا مجرد مشهد من الحياة اليومية التي يعيشها اليمن حاليا. فبعد أشهر عدة من القتال المتواصل، والضربات الجوية، والقصف المدفعي، والعقوبات الاقتصادية بات اليمن على شفا الانهيار. وأصبحت مدنه تعيش في سكونٍ مُخيّمٍ لا يقطعه إلا أصوات إطلاق نار أو انفجارات تتردد هنا أو هناك. وأضحى تنفيذ الأعمال اليومية السهلة، بدءًا من إعداد كوب من القهوة، وانتهاءً بإحضار الطعام أو التنقل عبر شوارع المدينة إلى مكان العمل، ضربًا من المستحيل في ظل غياب الأمن ونقص الكهرباء وشحّ الوقود.
في خضمّ هذه الفوضى، تُصبح حياة الأشخاص العاديين أكثر بؤسًا يومًا بعد يوم. فمع ارتفاع أعداد القتلى والجرحى، تعاني المستشفيات والعيادات الطبية نقصًا في الإمدادات والمعدات الطبية، فضلًا عن النقص الحاد في السلع الأساسية كالمياه والمواد الغذائية والوقود في أنحاء عديدة من البلاد.
الباقون بمفردهم بعد رحيل الجميع
وسط الأجواء الملتهبة في اليمن، يعمل موظفو الحركة الدولية ومتطوّعوها بلا توانٍ بحثا عن وسائل إيصال المساعدات اللازمة لإنقاذ الأرواح. ففي الوقت الذي سحبت فيه معظم المنظمات الدولية موظفيها لأسباب أمنية، بقيت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مُمثّلة بـ 30 موظفًا أجنبيا، و190 موظفًا يمنيًّا موزَّعين على مقرّاتها في صعدة، وصنعاء، وتعز، وعدن.
يصل هؤلاء الأفراد الليل بالنهار، مُنخرطين في العمل الإنساني على الرغم من الصعاب الجمّة التي تواجههم، يساعدهم متطوّعو الهلال الأحمر اليمني الذين يعانون بدورهم جرّاء النّزاع الدائر. من هؤلاء من اقتُلعوا من جذورهم، ومنهم من فقدوا أحباءهم أو ممتلكاتهم الشخصية. هذا فضلًا عما يحيط عملهم من مخاطر، فغالبًا ما يخاطر المتطوّعون بأرواحهم لمساعدة الآخرين. وحتى الآن لقي أربعة متطوّعين من الهلال الأحمر اليمني حتفهم أثناء أدائهم واجبهم الإنساني، آخرهم المُتطوّعة جميلة ناجي برت التي كانت تعمل في فرع الهلال الأحمر اليمني في مدينة حجة، والتي لقيت حتفها نتيجة قصف جوي أثناء تقديمها المساعدة لمصابي غارة جوية ضربت المنطقة قبلها بدقائق معدودة.
يعمل معظم هؤلاء المتطوِّعين وموظفو اللجنة الدولية بلا انقطاع لتلبية المُتطلبات المفروضة عليهم، حتى في الحالات التي تُفرض فيها قيود مُشددة على تحركاتهم نتيجة المخاطر المُحيطة بهم.
في مستشفى "الجمهورية"، المستشفى الرئيس الذي تُحال إليه معظم الحالات من محافظة عدن والمحافظات المجاورة، والذي تدعمه اللجنة الدولية منذ اندلاع القتال في اليمن، اضطر السيد علاء سحيم، الموظف الميداني في قسم الصحة التابع للبعثة الفرعية للّجنة الدولية في عدن، إلى الإقامة بصفة دائمةٍ منذ الخامس والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي. يقول سحيم: "لم أستطع الوصول إلى منزلي بسبب حواجز الطرق، وخشيت إن غادرت المستشفى –حيث يحتاجونني- ألا أتمكن من العودة إليه ثانيةً".
تُعد عدن في الغالب أكثر المدن اليمنية خطورة، ففي شهر آذار/ مارس الماضي، أُجبر معظم موظفي اللجنة الدولية الأجانب على مُغادرة المدينة، كما أُخلي المُستشفى تمامًا بعدما تحول مُجمّع المستشفى وما حوله إلى مسرح للقتال. "لقد صُدمنا من عدم احترام الأطراف المُتقاتلة للمستشفى، الذي يجب أن يُنظر إليه بوصفها مُنشأة صحية مُحايدة" يعلق سيدريك شفايتزر، رئيس بعثة اللجنة الدولية في اليمن آنذاك.
من جانبه يقول سحيم الذي تولى مهمة إجلاء نحو 120 مريضا ثم إعادتهم: "شكل تحمّل مسؤولية المُستشفى وبرنامجه الخاص بالاستجابة الطارئة وسط القتال المُحتدم شكل تحديًا كبيرًا". وبفضل الدعم الذي قدمه رئيس البعثة الفرعية وطاقم اللجنة الدولية المُقيم، استطاعوا مواجهة الصعاب. ويفخر سحيم "بكل ما حققناه في إدارة المُستشفى، فقد تمكنا من علاج نحو 800 شخص من جرحى الحرب خلال شهر واحد".
بحر متلاطم من الاحتياجات
بالإضافة إلى ما تقدم، شكّل الوصول إلى الأفراد العالقين وسط القتال تحديًا صعبًا، وهو ما يؤكده الموظف في البعثة الفرعية للّجنة الدولية في صعدة، بشير جبران قائلا: "أحال القتال حياة الناس إلى جحيمٍ من المعاناة، ولقد حاولت اللجنة الدولية جاهدةً فعل أي شيء حيال هذا الفيض المتدفق من الاحتياجات، لا سيما فيما يتعلق بالرعاية الصحية. غير أن الطرق لم تكن آمنة، وكان الضحايا عالقين في كثير من الأماكن. لذا أرسلنا مواد المساعدة إلى المُنشآت الصحية كي تتمكن من الاستجابة على الفور".
وقد تضرر العديد من موظفي بعثة اللجنة الدولية بشكل مباشر جراء القتال بحسب الموظف بقسم الأمن الاقتصادي فارس البشري الذي يقول: "بعض زملائنا في الشمال وفي الجنوب طالهم ضرر شخصي نتيجة الغارات الجوية المستمرة، تمثّل ذلك في فقد بعضهم أقاربهم ومنازلهم. وقد اضطر بعضهم إلى الانقطاع عن أعمالهم اليومية نتيجة نزوحهم مع عائلاتهم، وصار لزامًا عليهم البحث عن مأوًى آمن".
بشكل عام، أصبح الوصول إلى الميدان أمرًا أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى لكن البشري يؤكد "أننا ما نزال قادرين على إيصال المساعدات إلى بعض الأماكن المتضررة. فالحافز والحماس للعمل لأجل ضحايا القتال الدائر مازالا موجودين بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي نواجهها في الميدان".