صفحة من الأرشيف: قد تحتوي على معلومات قديمة

التعذيب في الجزائر . التقرير الذي غيّر كل الأوضاع

15-09-2005 مقال، صحيفة لو موند

منذ العام 1955 بدأ مندوبو اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة المحتجزين الجزائريين وقد تمكنوا من ملاحظة وجود التعذيب. وكانوا مضطرين إلى التزام الصمت إلا أن صحيفة "لو موند" الفرنسية نشرت ملخصاً لتقريرهم.

     

    ©ICRC All rights reserved/dz-n-00034-28a      
   
مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع بعض المحتجزين الجزائريين داخل معسكر مؤقت في "قنادسا". يمكن للجنة الدولية زيارة السجون طبقا للشرط المعتاد المتعلق بالحفاظ على سرية التقارير التي تعدها.   
        لقد فشلت جميع المحاولات عبر القنوات الأخرى. ولم تفلح الجهود المبذولة سواءتلك التي تتعلق بالاتصالات داخل الإدارة الفرنسية أم بطلب المساعدة من الصليب الأحمر الفرنسي. وقد بدا من الضروري اللجوء إلى رئيس مجلس الوزراء نفسه السيد " بيير منديس فرانس " وتمت المقابلة في 31 يناير/كانون الثاني 1955. وقررنا توجيه طلب واضح إليه يتلخص في إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترغب في مقابلة الأشخاص الموقوفين في إطار " التمرد " الجزائري. إن المسألة في غاية الحساسية ولذا يتوجب على اللجنة الدولية أن تتصرف بحذر وتتخذ الكثير من الاحتياطات. وهي تذكّر باستمرار " أن هدف هذه الزيارات ينحصر في الاطلاع على نظام الاحتجاز ولن يتعلق أبداً بأسبابه " ذلك أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لا تتدخل في القضايا السياسية.

إلا أن انفجار البركان الذي تمثله الأزمة الجزائرية يمثل في هذه الفترة موضوعاً سياسياً بامتياز وقد بدأ يهدد ركائز الجمهورية الفرنسية. ولكنه كان يتيح في الوقت نفسه فرصة نادرة للعاملين في اللجنة الدولية الذين يودون تطبيق ما سمحت لهم بتنفيذه اتفاقيات جنيف الحديثة العهد، أي التدخل في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الاتفاقيات. ومع ذلك ينبغي للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تتصرف بحذر شديد أمام هذه الحرب المدمرة التي تهدف إلى إزالة الاستعمار وتجري على أبواب أوروبا. وها هي تدفع ثمن اندفاعها وتتعلم كيف يمكن للدول أن تبتكر الإجراءات الرامية إلى طمس ما يجري وراء الكواليس. أما المندوبون فعليهم كظم غيظهم وإخفاء مشاعرهم والسكوت أمام الأعمال الوحشية التي يشهدونها. وبينما تصبح سمعة المنظمة خير من يتكلم باسمهم، سيتولى آخرون نشر الشهادات التي جمعوها بصبر وعزم دؤوبين.

  هدية من "بيير منديس فرانس"  

عودة الآن إلى مكتب " منديس فرانس " . هل لرئيس الوزراء أن يأذن للمنظمة بالتدخل في قضية تسمّم أجواء حكومته؟ لقد صادقت فرنسا على اتفاقيات جنيف منذ العام 1951 . ولكن الاتفاقيات لم تنص على عقوبات تلزمها بالاستجابة لطلب اللجنة الدولية. وها أن رئيس الحكومة يبدي تردداً أمام الصدمة التي خلفتها الاعتداءات الأولى في الجزائر. فهو يود أن تقمع الثورة ولكنه يريد أيضاً أن يوقف العنف الذي تمارسه قوات الأمن. فهو ينتظر من وزير الداخلية في حكومته ، السيد " فرنسوا ميتران " ، أن يضع حداً لهذه التجاوزات وقد عيّن مؤخراً لهذا الغرض كذلك مثقفاً ليبرالياً هو السيد " جاك سوستيل " في منصب الحاكم العام الجديد.

هل يعلم حينذاك " بيير مندس فرانس " أن مركزه كرئيس للوزراء مهدد ؟ المهم أنه ، بتاريخ 2 شباط/فبراير، يمنح اللجنة الدولية للصليب الأحمر إذناً بزيارة السجون شرط أن تنحصر في مهمات محددة في الزمن – يجب ألا تتجاوز إقامة المندوبين في الجزائر مدة الشهر الواحد- كما يسمح بمقابلة السجناء على انفراد في غياب شهود. لكنه يحفظ خط الرجعة : لن يسمح أبداً " بالإعلان عن نشاط اللجنة الدولية " . ويضيف أن التقيّد بهذا الشرط هو وحده الكفيل بأن " يؤدي إلى التأثير الإيجابي الذي تنتظرونه من هذه الزيارات " .

إلا أن " مندس فرانس " لن يتمكن من رؤية هذه النتائج " الإيجابية " . فبعد ثلاثة أيام من الاتفاق كانت حكومته ترغم على الاستقالة. ولكنه كان قد فتح أبواباً لم يستطع خلفاؤه إغلاقها : وبفضل السرية النسبية التي أفاد منها المحتجزون، استطاعوا إبلاغ المندوبين بما يعانوه من سوء المعاملة. وفي هذا السياق تقول المؤرخة الفرنسية " رافائيل برنش " التي تناول موضوع أطروحتها لشهادة الدكتوراة مسألة التعذيب في الجزائر: " لقد جرى كل شيء كما لو أن " مندس فرانس " كان يعّد لرحيله فأنشأ أكبر عدد ممكن من الحواجز الواقية " .

  جنود موهومون  

عبر المندوبون البحر الأبيض المتوسط في مارس/آذار 1955 وهم لا يعلمون بعد كم ستكون مهمتهم شاقة. ففرنسا ترفض الاعتبار أنها في حالة حرب مع الجزائريين الوطنيين. وفي غياب حالة الحرب، لا يمكن أن يمنح المحتجزون وضع أسرى الحرب. فهم يوصفون " بالمقبوض عليهم وهم يقاتلون " . ويتولى قضاة التحقيق الفرنسيون مسؤولية النظر في مصيرهم ويحالون دائماً أمام المحاكم. وبهذا ستضطر اللجنة الدولية إلى طلب إذن خاص من هؤلاء القضاة. وهذه العملية طويلة ومعقدة لاسيما أن القضاة سيبذلون كل ما في وسعهم مستخدمين سلطاتهم لسد الطريق أمام المندوبين.

وتشير " فرانسواز بيري " المكلفة بالأبحاث التاريخية في اللجنة الدولية أن هذه الأخيرة تجد نفسها أمام تحد كبير. فسواء امتثل هؤلاء المقاتلون المقبوض عليهم لقانون الحرب أم لم يمتثلوا القضية سيان بالنسبة إلى الدولة الفرنسية التي ستستخدم ضد التمرد كل ما يسمح به القا نون الجنائي. وتكتب " فرانسواز بيري " : " في هذه الحال يمكن إدانة المتمرد لمجرد مشاركته في عمليات عدائية " . ولن ينظر إلى هؤلاء " الجنود " باعتبارهم أداة في يد الدولة – كما هو الحال في النزاعات الدولية- بل يتعرضون لعقوبات شديدة لمجرد أنهم شاركوا في القتال.

     

  سجناء غير موجودين  

     
     
   
    تسلسل الأحداث    
  • 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 : تسجيل بداية حرب الجزائر بما سمي "عيد جميع القديسين الأحمر".
  • أبريل/نيسان 1955 : إعلان حالة الطوارئ في الجزائر
  • 24 أغسطس/آب 1955 : استدعاء 000 60 من جنود الاحتياط في فرنسا.
  • 6 فبراير/شباط 1956 : زيارة "غي مولّي" إلى الجزائر .وأنصار الجزائر الفرنسية يستقبلونه بأعمال العنف.
  • يناير"كانون الثاني إلى أكتوبر/تشرين الأول 1957 "معركة الجزائر العاصمة" : اشتداد الإرهاب والقمع والتعذيب
  • 1 يونيو/حزيران 1958 : تكليف حكومة "دي غول".
  • 16 سبتمبر/أيلول 1959 : "دي غول" يتكلم عن "حق الجزائريين في تقرير المصير".
  • فبراير/شباط 1961 : إنشاء المنظمة السرية المسلحة (OAS).
  • 20 مايو/أيار 1961 : افتتاح مفاوضات إيفيان.
  • 18 مارس/آذار 1962 : التوقيع على اتفاقيات إيفيان.
  • 3 يوليه/تموز 1962: اعتراف فرنسا الرسمي باستقلال الجزائر.
  •      
           
 

ستبقى فرنسا لفترة طويلة غارقة في هذا الموقف الخداع ولو أن الدفاع عنه راح يزداد صعوبة مع تفاقم الأحداث واتخاذها منحى الحرب. ففي العام

1958، أنشأ الجنرال " سالان " قائد أركان القوات الفرنسية في الجزائر مراكز احتجاز عسكرية مصممة خصيصاً للمتمردين المقبوض عليهم وهم يقاتلون. وهنا يتجاوز التضليل كل الحدود : فقد بدا أن هؤلاء المحتجزين يتمتعون بوضع خاص، ومع ذلك لا يزال اعتبارهم أسرى حرب مرفوضاً. ويواصل مكتب قيادة الأركان في الجزائر تصريحاته بعدم جواز تطبيق اتفاقيات جنيف.

أما المندوبون فلا شك لديهم في أن سوء المعاملة شائع في مراكز احتجاز معينة لاسيما خلال التحقيقات. وتشير تقاريرهم التي ترفع إلى الحكومة الفرنسية إلى شروط احتجاز قاسية للغاية. وخلال المناقشات التي تجري في باريس في أعقاب هذه التقارير، لا تعترض السلطات الفرنسية أبداً على الصورة المقلقة التي ينقلها المندوبون، لكنها تمارس لعبة القط والفار : فتحسباً للزيارات ينقل بعض المحتجزين الذين تعرضوا لسوء معاملة شديدة بعيداً عن أماكن الاحتجاز. وأحياناً تحجب أقسام كاملة من أماكن الاحتجاز عن عيون المندوبين خاصة حول " مراكز الفرز والعبور " حيث يكدس المحتجزون ويخضعون للتعذيب قبل نقلهم إلى السجون. 

وتثبت المراسلات الداخلية في اللجنة الدولية أن هذه الحيل لا تنطلي على المندوبين. ففي يونيو/حزيران 1959 ، وفيما لا يتوقف الجيش الفرنسي عن الإعلان عن توقيف مئات الأشخاص خلال العمليات العسكرية ، يتساءل أحد المندوبين أمام العدد الرسمي للمحتجزين كيف يمكن أن يبقى هذا العدد ثابتاً . " في مثل هذه الأحوال، ماذا جرى للأعداد الفائضة من المحتجزين ؟ فمن خلال حالات خاصة استطعنا التأكد من أن رجالاً " قبض عليهم وهم يقاتلون " لا يزالون يرسلون إلى السجون خلافاً لما كنا قد أبلغنا به " .

كما يعبر المندوبون عن قلقهم إزاء تعميم ما تسميها السلطات " مرحلة الاستفادة من السجناء لأغراض العمليات " .وهي عبارة تستخدمها الإدارة بالنسبة إلى الاحتجاز المؤقت لفترة شهر واحد مبدئياً لهؤلاء " المقبوض عليهم وهم يقاتلون " . هذا ويلاحظ أحد المندوبين " وكما تعلمون، تحدث الأ عمال الأكثر فظاعة خلال هذه الفترة بالذات من " الإفادة العملية " : استجوابات ترافقها عمليات اعتداء، سجناء يقتلون خلال محاولات هرب، احتجاز تعسفي في زنزانات انفرادية من أجل الحصول على معلومات من السجين " .

وأمام مثل هذه الممارسات، ما يقال عن " تحسين " لشروط الاحتجاز والذي تتباهى به السلطات يثير الحزن والأسى. فنذكر هذه الرسالة التي وقعها قائد لواء مسؤول عن المركز العسكري للمحتجزين في " قصر ثير " والمصنفة " سرية " حتى تاريخ فتح الأرشيف مؤخراً. فهو يذكر من بين التحسينات التي أدخلت على وضع المحتجزين توزيع الحصر لينام عليها السجناء، والإذن بمراسلة العائلة مرة واحدة شهرياً (تخضع الرسائل للرقابة)، أو ... توفير عدد من مجلة " باري ماتش " الفرنسية في صالة الطعام. ونرى القائد نفسه يرفض بشدة اقتراح اللجنة الدولية بالإفراج عن السجناء الجرحى فيقول: " إن الحالة النفسية للجرحى غير ملائمة ولا تسمح باعتماد هذا الحل حتى لو كان مرغوباً فيه. فهؤلاء الأفراد يدّعون أنهم أبطال النضال للاستقلال وجراحهم ترمز إلى الآلام الشديدة التي تحمّلوها من أجل الجهاد المقدس. ومن المحتمل أنهم سيعودون فور الإفراج عنهم إلى ممارسة نشاط ما لصالح جبهة التحرير الوطني " ...

     

  استيقاظ ضمير معتقل قديم مبعد  

لم تؤد ملاحظات اللجنة الدولية إلى نتيجة مباشرة إلا أنها ستنفع في إثارة اهتمام أولئك الذين يشعرون في باريس أنهم فقدوا السيطرة على النزاع الجزائري. ففي 5 يناير/كانون الثاني 1960 تنشر جريدة " لو موند " الفرنسية ملخصاً طويلاً عن تقرير المهمة السابعة التي أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الجزائر . ويشير المقال الذي سيكون له وقع القنبلة إلى أن " حالات عديدة من سوء المعاملة والتعذيب لا تزال تلاحظ " . وقد كشف عقيد في الشرطة للمندوبين " أن الكفاح ضد الإرهاب يجعل من الضروري اللجوء إلى بعض أساليب الاستجواب الكفيلة وحدها بإنقاذ حياة العديد من الناس وتجنب اعتداءات جديدة " . وهكذا تستطيع كل فرنسا قراءة هذا الاعتراف.

كانت آنذاك وثائق كثيرة موجودة حول ممارسة التعذيب في السجون الجزائرية. إلا أن الطابع الجدي والموضوعي لجريدة " لو موند " ترافق هنا مع الشرعية التي يملكها اسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفيما كان هذا الموضوع يشغل كل مساحات النقاش العلني في فرنسا، جاء التقرير ليقدم تكذيباً لاذعاً لتصريحات وزير الدفاع المهدئة. كان هذا النشر يشكل خرقاً لمبدأ السرية الكاملة المتفق عليه بين اللجنة الدولية والسلطات الفرنسية إلا أن أحداً لم يتهم المنظمة بأنها مصدر " تسريب " الخبر.

وبالفعل لن يعرف اسم الشخص الذي سرّب التقرير السري إلى صحفيي جريدة " لو موند " إلا بعد مرور فترة طويلة. وهو " غاستون غوسلين " الموظف في مكتب وزارة العدل والمكلف بمسائل الاحتجاز داخل أراضي البلد الأم . مدافع نشيط عن مهمة اللجنة الدولية، صدمته اكتشافاتها وقرر إعلانها للجمهور وهذا ما كانت ترفضه الحكومة الفرنسية. وبعد بضعة أشهر استقال " " غاستون غوسلين " من منصبه. وعرف عنه أنه كان قد التحق بالمقاومة خلال الحرب العالمية الثانية وأعتقلته القوات الألمانية وأبعدته إلى معسكر الاعتقال في " داشو " .

ولم يسمح للجنة الدولية بالقيام بمهمة جديدة في الجزائر إلا بعد مرور أكثر من عام على تلك الحادثة. واستخدمت المنظمة هذه الفترة لتكثف الاجتماعات بهدف " اتخاذ احتياطات أكبر في المستقبل " . وخلال اجتماع عقد في 1960، اتخذ مجلس اللجنة الدولية قراراً بالإعلان عن " انزعاجه الشديدلمثل هذه التسريبات " لأن " من شأنها أن تعرّض عمليات أخرى للفشل حتى لو لم تكن اللجنة الدولية مسؤولة عنها " . إلا أن ما كان للمجلس في هذا السياق إلا أن يقّر بأن نشر تقريره كان مناسبة لتسلمه كمية هائلة من الهبات والتهاني..

مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع بعض المحتجزين الجزائريين داخل المعسكر المؤقت في " قنادسا " . تمكنت اللجنة الدولية من زيارة السجون شرط احترامها البند المتعلق بسرية التقارير .