اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمحرقة

02-02-2005

يصادف يوم 27 كانون الثاني/ يناير ذكرى تحرير معسكر أوشفيتز في عام 1945. ويمثل هذا التاريخ بالنسبة للجنة الدولية للصليب الأحمر فشلاً في توفير المساعدة والحماية لملايين الناس الذين أبيدوا داخل معسكرات الموت. وقد أعربت اللجنة الدولية علانية عن أسفها لما أبدته من عجز وارتكبته من أخطاء في تعاطيها مع عمليات الاضطهاد والإبادة الجماعية النازية.

 

كان اليهود قد سلبوا جميع حقوقهم في ظل نظام هتلر وانتُزِعت  منهم ممتلكاتهم وزج بهم في "غيتوات" مكتّظة وأُجْبِروا على حمل نجمة صفراء وتعرّضوا لأشكال لا حصر لها من الإذلال والوحشية وصولاً إلى عمليات الترحيل والمذابح. وارتفع عدد حملات الاعتقال الجماعية خلال الحرب وكان يجري ترحيل اليهود بشكل منتظم إلى معسكرات الاعتقال والإبادة وعزلهم تمامًا عن العالم الخارجي.

وخاطب رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر آنذاك الصليب الأحمر الألماني في كانون الأول/ ديسمبر عام 1939 من أجل ترتيب زيارة مندوبي اللجنة الدولية ليهود فيينا الذين جرى ترحيلهم إلى بولندا. بيد أن طلبه قد قوبل بالرفض لعدم رغبة السلطات الألمانية في مناقشة مصير هؤلاء الأشخاص تحت أي ظرف من الظروف.

واتّبعت اللجنة الدولية منذ ذلك الحين استراتيجية تمثلت في عدم معالجة مسألة اليهود بطريقة مباشرة – فهي لم تفعل ذلك سوى عبر الإشارة العامة إلى ضحايا  عمليات الاعتقال الجماعي أو الترحيل، ثم لم تكن تشير إلى الانتماء الديني أو الأصول العرقية رغم أنه كان واضحاً أن الأشخاص المعنيين كانوا في غالبيتهم من اليهود.
وأخبر الصليب الأحمر الألماني اللجنة الدولية في 29 نيسان/ أبريل عام 1942 بأنه لن يتيح لها أية معلومات عن المحتجزين "غير الآريين" مطالبًا إياها بالإمساك عن طرح أية أسئلة حولهم.

إلا أن معلومات حول تعرض اليهود للاضطهاد تسربت مع ذلك من ألمانيا والبلدان التي احتلتها لتصل إلى حكومات الحلفاء وبلغ البعض منها أيضًا اللجنة الدولية.
وبحثت اللجنة الدولية في صيف عام 1942 إمكانية إطلاق نداء عام حول انتهاكات القانون الدولي الإنساني. وأَعدَّت اللجنة مسوّدة بالفعل إلا أنها قررت في نهاية الأمر عدم إطلاقه إذ ارتأت أنه لن يحقق النتائج المنشودة. لذا تابعت اللجنة الدولية القائم على الاتصالات الثنائية.

الطرود الغذائية
حصلت اللجنة الدولية بعد ذلك بعام واحد على تصريح من وزارة الخارجية الألمانية بإرسال طرود غذائية للمعتقلين في معسكرات الاعتقال الذين كانت على علم بأماكنهم. وكانت لديها معلومات عن نحو 50 من المرحلين قامت بإرسال طرد إلى كل منهم، وتلقت خلال فصل الصيف إقرارات استلام مذيلة بتوقيع المرسل إليهم. وتمكنت اللجنة الدولية في وقت لاحق من معرفة مكان اعتقال بعض المرحلين الآخرين ووسعت نطاق عملية إرسال الطرود. وحصلت اللجنة الدولية بحلول أول آذار/ مارس 1945 على معلومات بشأن 56000 مرحل وبلغ هذا العدد 105000 مرحل بنهاية الأعمال العدائية. واستبدلت المنظّمة طرودها الفردية بشحنات جماعية اعتبارًا من صيف عام 1944 . وبلغ مجموع الطرود الغذائية التي أرسلتها إلى معسكرات الاعتقال ما يزيد على 122000 طرد غذائي حتى آيار/ مايو 1945. إلا أن هذه العملية لم تنجح في أن تشمل المرحلين الخاضعين لأشد النظم قسوة ولم تكفل أية حماية للمعتقلين من التعذيب أو المذابح. وواصلت اللجنة الدولية إذا مساعيها لدى السلطات الألمانية من أجل السماح لها بزيارة معسكرات الاعتقال. إلا أنها قوبلت بالرفض القاطع.

وأرسلت اللجنة الدولية في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1943 مندوبًا يدعى "جان دي بافييه" إلى هنغاريا. ووصل "فردريش بورن" يوم 17 آيار/ مايو عام 1944 ليقوم مقامه. إلا أنهما قد وقفا على مرأى ومسمع من موجة من عمليات الترحيل إلى أوشفيتز شملت جميع اليهود تقريبًا المقيمين في الأقاليم نظمتها الشرطة السرية الألمانية إس.إس في الفترة ما بين 15 أيار/ مايو  و 7 تموز/ يوليو  1944 وعجزا عن منعها.

عمل "فردريش بورن"
حصل "فردريش بورن" على تصريح من حكومة هنغاريا في تموز/ يوليو 1944 بتزويد يهود بودابست بشهادات تفيد حملهم لوثائق هجرة صادرة عن بلدان في أمريكا اللاتينية. إلا أن هذه الوثائق لم تمكن يهود بودابست من مغادرة هنغاريا التي كانت محاطة بأراض خاضعة لسيطرة حكومة الرايخ بيد أنها كفلت لهم قدرًا من الحماية.

وبالإضافة إلى ذلك، أنشأ "بورن" نحو 60 من دور الأطفال ليقيم بها بين 7000 و8000 طفل يهودي بما في ذلك العديد من الأيتام. وكفل الحماية لجميع المستشفيات وأماكن الإيواء والمطابخ المجتمعية المملوكة للطائفة اليهودية في بودابست. وتمكن من القيام بذلك بمساعدة فريق تألف من نحو 3000 متطوع معظمهم من اليهود ومنحهم الوثائق اللازمة لإضفاء صفة الشرعية على وضعهم.
وحظيت هذه التدابير عمومًا بالاحترام إلى أن أطاح الحزب النازي الذي اتخذ من "الصليب المعقوف" شعارًا له بالوصي الأميرال "ميكلوس هورثي" في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1944  حين قام الحزب في غضون أيام بترحيل ما يناهز 50000 يهودي من العاصمة باتجاه الحدود الألمانية.

وقام "فردريش بورن" أمام عجزه عن منع عمليات الترحيل بتوزيع بعض إمدادات الإغاثة على المرحلين الذين حرموا من كل شيء. بيد أنه تمكن من منع انطلاق آخر قوافل الترحيل التي كانت مؤلفة من نحو 7500 شخص (يمكنكم الاطلاع على المزيد عن "فردريش بورن").

أنشطة أخرى في أوروبا
حاول مندوبان للجنة الدولية في بوخارست وهما "تشارلز كولب" و"فلاديمير دي ستيغر" من بين أمور أخرى تقديم عدة مقترحات من شأنها تمكين اليهود من الهجرة إلى تركيا، ثم منها إلى فلسطين أو إلى بلدان أمريكا اللاتينية. وقدم المندوبان هذه المقترحات بدعم من المنظمات اليهودية للسلطات وبذلا مساعٍ متنوعة لدى السلطات، جانب جميعها التوفيق إذ كان الحصول على التصاريح اللازمة ضربًا من ضروب المستحيل. ومع ذلك، تمكن مندوبا اللجنة الدولية من إنقاذ بعض اليهود من الترحيل.
وذهب مندوب اللجنة الدولية، الدكتور "موريس روسل" إلى "زارينشتات" يوم 23 حزيران/ يونيو عام 1944 بعد أن أعدت زيارته بعناية. كان يسير في "الغيتو" في ظل حراسة ضباط الشرطة السرية الألمانية إس. إس ولم تسنح له فرصة الحديث مع اليهود هناك أو الدخول إلى الحصن. وشارك ممثلان عن الحكومة الدنماركية أيضًا في هذه الزيارة.
وذهب الدكتور "روسل" إلى أوشفيتز في 27 سبتمبر/ أيلول عام 1944. وهناك تحدث إلى قائد المعسكر بيد أنه لم يسمح له بالدخول.

داخل "داخاو"
تمكن مندوبو اللجنة الدولية في الأيام الأخيرة من الحرب من دخول معسكرات "تركهيم" و"داخاو" و"ماوتهاوزن" للمرة الأولي. ونجحوا في وقف عمليات إعدام في اللحظات الأخيرة وتفاوضوا من أجل تسليم  المعسكرات مع وصول قوات الحلفاء. وتمكن "لويس هافليغير" مندوب اللجنة الدولية في "ماوتهاوزن" من الحصول على إلغاء لقرار قد صدر، ما منع تدمير أحد مصانع الطائرات السرية  في "غوسن"  (والذي كان جزءًا من المعسكر)  وإنقاذ قرابة 40000  من المحتجزين كانوا داخله.

ولم يستطع مندوبو اللجنة الدولية منع إخلاء معسكرات "أورانينبورغ" أو "رافنسبروك" وتم ذلك في ظل ظروف رهيبة. ولم يكن أمامهم سوى محاولة توفير الإمدادات الغذائية للمرحلين على جانب الطريق.
وكانت جميع الجهود التي بذلتها اللجنة الدولية من أجل مساعدة اليهود ومجموعات أخرى من المدنيين ممن تعرضوا للاضطهاد خلال الحرب العالمية الثانية قد ذهبت أدراج الرياح، باستثناء الأعمال التي قام بها "فريدريش بورن" في هنغاريا وأثناء بعض الحالات القليلة المتفرقة في أماكن أخرى.

وسعى "كورنيليو سوماروغا" رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال المشاركة في حفل أقيم عام 1995 لإحياء ذكرى تحرير معسكر أوشفيتز، إلى أن يبين كيف كانت المنظمة على علم تام بخطورة المحرقة وأن ثمة حاجة إلى إبقاء ذكراها شاخصة في الأذهان بغية منع تكرارها. وأشاد بجميع من عانوا أو فقدوا حياتهم خلال الحرب وأعرب عن أسفه إزاء وقوع أخطاء في الماضي وأوجه القصور التي شابت عمل الصليب الأحمر لصالح ضحايا معسكرات الاعتقال.