العنف المسلح والعمل الإنساني في المناطق الحضرية

29-07-2008 تحقيقاتبقلم ماريون هاروف- تافل

لقد أصيبت موقديشيو وغروزني وكابول وبغداد, في وقت أو في آخر, بالعنف الناجم عن نزاع مسلح. وغالباً ما تمثل هذه المدن بالنسبة إلى المنظمات الإنسانية التي يتزايد نشاطها في المناطق الريفية أماكن تظهر فيها تحديات خاصة . فهل تمثل مدن أخرى من بلدان تنعم بالسلم وتعد مرتعاً لنمو فوضوي, التربة الخصبة لأشكال جديدة من العنف بين الجماعات المسلحة, وهي لا تستدعي في المستقبل تواجد الأطراف الفاعلة في مجال التنمية فحسب, بل أيضاً الجهات العاملة في المجال الإنساني؟

  تعمل المؤلفة مستشارة سياسية لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر, ولا يعكس المقال بالضرورة وجهة نظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر وإنما يعكس رأي المؤلفة. وقد ترجم الموضوع من نص صادر باللغة الفرنسية.
       

 
   
يعيش أكثر من نصف عدد سكان الأرض في المدن. فحسب تقرير موئل الأمم المتحدة بشأن حالة مدن العالم 2006/ 2007, ستوجد أكبر المدن في البلدان النامية. وإذا كانت التجمعات السكانية التي تضم أكثر من 20 مليون نسمة قد سبق لها وأن ظهرت في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا, فإن المدن الأصغر التي يقل عدد سكانها عن المليون نسمة هي التي ستجتذب غالبية المهاجرين إلى المدن. وأخيراً, فإن مدن العالم النامي ستمتص 95% من نمو المناطق الحضرية في غضون العقدين القادمين.  
           
 

وترمي الأسطر التالية إلى تقاسم بعض الأفكار بشأن موضوع العنف الحضري من خلال الزاوية المحددة –لكن غير الحصرية- للنزاعات المسلحة. وسأفصل هذه الأفكار حول سبعة من الأسئلة.

  هل من المناسب القيام بتحليل للعنف انطلاقاً من المكان الذي حدث فيه؟  

     
    ©Reuters/F. Omar      
   
    صبي يصرخ بينما تحترق الإطارات في شوارع موقديشيو في 27 يوليو/ تموز 2007      
        يعتبر بعض الباحثين في العلوم الاجتماعية أنه من الخطورة بمكان التحدث عن " العنف الحضري " وعن أقلمة العنف. ويمكن أن يؤدي التركيز على هذا الأمر, على حد قولهم, إلى الرمي بالحالة الأشد مأساوية لسكان الأرياف في غياهب النسيان. فوضع العنف في دائرة المنطق القطاعي يوازي الخضوع للأسلوب الذي يفرضه التعميم الإعلامي المفرط للعنف الحضري. إنه من المخاطرة القيام بتشنيع صورة المدينة, وهي المكان الذي تتمركز فيه كل مخاوف المجتمعات الغربية, والتي تعزو إليها هذه المجتمعات خطورة مبالغ فيها في بعض الأحيان. وأخيراً, فما الذي نحن بصدد الحديث عنه, على حد قول البعض: أعن العنف ضد المدن (خلال عملية حصار أو محاصرة, على سبيل المثال)؟ أعن العنف في المدن؟ أم عن عنف المدن, أو بالأحرى عن مدن الصفيح التي تنمو بطريقة فوضوية في الوقت الذي تتكاثر فيه الجزر الأمنية التي تحميها شركات خاصة؟ وإنه لمن الممكن فهم هذه التساؤلات.

وبالمقابل, توجد خاصية نوعية تميز العنف النزاعي الحضري بالنسبة إلى العنف النزاعي الريفي. وفضلاً عن ذلك, فإن الاستجابة لاحتياجات الحماية والمساعدة الموجهة لصالح الجهات المتضررة من الأفراد والمجتمعات المحلية المتضررة من العنف المسلح في المدن تطرح مشاكل خاصة, وهو ما سأبذل قصارى جهدي لتوضيحه في الأسطر التالية.

  هل بالإمكان فصل العنف المتعلق بنزاع مسلح عن الأشكال الأخرى من العنف في المناطق الحضرية؟  

تعد المدن مسرحاً لأشكال متعددة من العنف التي يمكن لها أن تحدث في آن واحد; النزاعات المسلحة; الصراعات الدائرة بين العصابات من أجل التحكم في إقلي م من الأقاليم أو في التجارة غير المشروعة; العنف المجتمعي المتفشي داخل المدن المقسمة إلى غيتوهات; الجريمة المنظمة; أعمال الشغب المرتبطة بالجوع في المناطق الحضرية; أو أيضاً ظواهر الغليان عند احتشاد جموع الجماهير والتي من شأنها الإفلات من نطاق السيطرة (لا يتعلق الأمر هنا بعملية تصنيف ولا بعرض قائمة شاملة).

ويتعين أن يضاف إلى هذه الأشكال من العنف الجماعي والمجتمعي مستويات أخرى من العنف وصفتها منظمة الصحة العالمية في      تقرير 2002 عن العنف والصحة , ذي الأهمية البالغة, وهي: العنف في العلاقات (في المدرسة, في أماكن العمل), العنف داخل الأسرة (بين الأزواج), عنف الفرد. 

  فهل بالإمكان تمييز جميع أشكال العنف هذه؟  

لا يمكن القيام بذلك من وجهة النظر التحليلية , طالما أن العنف هو نتيجة لدينامية معقدة بين عوامل فردية وعلائقية ومجتمعية واجتماعية. ولا يمكننا الاكتفاء بالطلب إلى إحدى الجماعات المسلحة بألا تقوم بتجنيد الأطفال وألا تهتم بما يدفع الطفل إلى الالتحاق بها (عندما تكون هذه الجماعة, على سبيل المثال, هي العامل الوحيد للحماية الذي يعتقد أنه متوافر لديه) أو بما يدفع الجماعة إلى تجنيد الأطفال. وقلما يكون هنالك معنى لتقسيم التحليل إلى أجزاء مع عدم التساؤل عن أسباب بعض الممارسات أو عن الأسس التي يقوم عليها السلوك الإنساني.

ومن وجهة النظر التشغيلية , يتعين على المنظمة الإنسانية أن تقوم باستعمال أمثل للموارد المحدودة. وبالنسبة إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر, فهي ترى أنها مكلفة بولاية محددة في إطار القانون الإنساني الدولي الذي يسري في حالات النزاع المسلح. وقد اعترفت لها المجموعة الدولية أيضاً بحق اتخاذ المبادرة في حالات العنف الأقل حدة, بل حتى خارج إطار هذه الحالات إذا كان يمكن لحيادها واستقلاليتها أن ينطويا على شيء من النفع. وعليه, فمن الأولية بمكان أن تكون الآثار الناج مة عن النزاعات المسلحة أو الأشكال الأخرى من العنف المسلح الجماعي في قلب هذه الأنشطة. 

وفي ضوء التطور السوسيولوجي للعنف, يعد الانتماء للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر مؤهلا رئيسياً تكتسبه اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وكثيراً ما تستجيب الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر بمساعدة من اتحاداتها الدولية بالتفاعل تجاه مجموعة واسعة من أعمال العنف (أعمال الشغب داخل ضواحي المدن, المواجهات التي تحدث أثناء المنافسات الرياضية أو السياسية, العنف بين الأزواج, وغيرها). وهي تمتلك, بناءً على ذلك, تجربة ومهارات ليست في حوزة اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

     
©ICRC/B. Heger/ru-e-00278 
   
غروزني: مبان دمرتها المدفعية خلال النزاع 
        ويتعين أن يجري استغلال هذا التكامل في الوقت الحاضر على نحو أفضل من ناحية التحليل والممارسة التشغيلية. وحتى يتم تناول المثال المذكور سابقاً مرة أخرى, فما هي الصلة الموجودة بين جعل العنف أمراً مبتذلاً في العلاقات الإنسانية والاجتماعية (النساء والأطفال الذين يتعرضون للضرب بصورة يومية, العنف في المدرسة, العنف في الشارع, وأثناء التظاهرات الرياضية) وبين سلوك المسلحين أثناء المعارك؟ هل يكون اللجوء لاستعمال السلاح أمراً طبيعياً أكثر من غيره عندما يكون الاعتداء الجسدي في أغلب الأحيان هو الأسلوب المتبع في إدارة الخلافات الحاصلة في الحياة اليومية؟ كيف يؤثر نزاع مسلح ما على العنف ا لمنزلي في مرحلة ما بعد انتهاء النزاع؟ لقد آن الأوان للوصول إلى فهم للعنف وإلى نهج كلي يسمح بالوقاية منه على نحو أفضل أو لجم الزيادة المفرطة فيه على جميع المستويات. 

  فيم يكون العنف الحضري نوعياً بالنسبة للمسلحين؟  

تمثل المدن بالنسبة للقوات المسلحة تحدياً خاصاً في أرض الواقع, وكمثال على ذلك الأخطار المرتبطة بالمعارك الذي تدور رحاها في الشوارع واحتمالات لجوء العدو إلى الاختباء, لا سيما في المناطق " المحررة " من طرفه. وتجعل القيود اللوجيستية والأمنية من الحصول على أي نصر حاسم أمراً غير ميسور. وتتباين المهارات المطلوبة للقتال بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية.

وتنطوي المدن بالنسبة للجماعات المسلحة على جاذبية خاصة. فهي تجمّع الثروات التي هي محل طمع البعض. وهي تمثل المكان الرمز للحكم الذي توجد فيه, حينما يكون هو العاصمة, السفارات ووسائط الإعلام الدولية, وبالتالي إمكانية الاتصال بالمجموعة الدولية. وهي تشكل مركز الجذب لوسائل الاتصال والنقل, ومن ثم, فهي النافذة المفتوحة على تجارة السلع –المشروعة وغير المشروعة- والوسيلة المضمونة للتزود بالأسلحة. وأخيراً, ففي المدن تتمركز المستشفيات والمدارس والإدارات المختلفة, أو بعبارة أخرى إمكانية العيش بصورة أفضل, بالإضافة إلى إمكانية الوصول إلى السلع الاستهلاكية.

وانطلاقاً من المدينة, يمكن لبعض الجماعات المسلحة أن تحافظ على صلاتها ليس مع جهات العصيان في الأرياف فحسب, بل مع الأوساط الإجرامية التي تنفذ أعمالها الدنيئة مقابل أجر يدفع لها. ويسمح الطابع المتستر للمدينة على نحو أسهل بإقامة هذه الصلات أكثر مما تسمح به المناطق الريفية حيث يعرف جميع الناس بعضهم البعض. ويمكن لجماعات مسلحة مدربة منضبطة وتحترم القانون الإنساني أن تعاشر جماعات مسلحة تحولت إلى الجريمة وجماعات إجرامية تسيست وحصلت بالتالي على مصف الاحترام. ويتيح التمازج بين الأهداف والممارسات الفرصة لظهور كيانات هجينة تحافظ أحياناً على الاتصال في ما بينها, ويبدو أنها تتبادل مع بعضها البعض التدرب على الطرق التكتيكية والتقنية. وحاصل القول, فإن البيئة الحضرية يمكنها أن تشكل نمط الجماعات التي تنشط وتتطور بداخلها. وعليه, فهل للمدينة تأثير على النموذج السلوكي للجماعات المسلحة التي تتعاشر فيها؟ السؤال يبقى مطروحاً.

ويمثل احترام القانون الإنساني عندما يكون هو القصد الذي ينشده المسلحون, من التابعين للدولة أو غير التابعين لها, تحدياً يواجههم جميعاً, وذلك بسبب صعوبة التمييز بين المقاتلين وبين المدنيين وبين الأهداف العسكرية وبين الممتلكات المدنية. وبالتالي, فإن تمركز الأهداف العسكرية في وسط حي سكني بجانب مدرسة من المدارس أو مكتبة بلدية يزيد من خطر إصابة المدنيين وتعرض مساكنهم للهدم وممتلكاتهم الثقافية للدمار.

  كيف يمكن للعنف الناجم عن نزاع مسلح أن يؤثر على سكان مدينة من المدن؟  

     
©ICRC/M. Kokic/af-e-01050 
   
كابول: عانى شعب أفغانستان لمدة ثلاث سنوات من النزاع 
       
بالنسبة لسكان المدن, يكون للسلوك المتعلق بالأعمال العدائية في المناطق الحضرية والذي تنتهجه الأطراف المتصارعة آثار خاصة. أولاً, فكثافة تجمع السكان في المناطق الحضرية يفاقم من آثار المواجهات. وبالتالي, ينتج عن الاستعمال المشترك للمدفعية الثقيلة والمدرعات والقنابل اليدوية التي ترمى في الأقبية المكتظة بالسكان آثار مدمرة. ومن ثم, تكون الخطوط الأمامية متحركة داخل المدينة. وتؤدي البنايات المدنية دور الغطاء الذي يحمي المقاتلين الذين ينتقلون من دار إلى دار. ويمكن أن تنتقل السيطرة على شارع من الشوارع من جهة إلى أخ رى بصورة مستمرة, ويخلص المصاب إلى أن المستشفى يقع على الطرف الآخر من الجبهة أو يدرك الطفل أن الوصول إلى مدرسته غير ممكن. وأخيراً, فالمدينة توفر للمسلحين فرصاً يمكن أن تبدو قاتلة بالنسبة إلى السكان: فبإمكانهم سد أو تلغيم منافذ حي من الأحياء أو مراقبة الأشخاص الذين يسلكون سبل العبور التي بقيت مفتوحة أو منع الجهات الفاعلة في المجال الإنساني ووسائط الإعلام من الوصول إلى مسرح المواجهات.

وفضلاً عن ذلك, يكون التعايش, بل المعاشرة بين المدنيين والجماعات المسلحة واقعاً يومياً في مدينة أصابها العنف المسلح. ومن ثم, فالتعرض للأخطار يكون عالياً, لا سيما خطر التعرض للقتل أو الإصابة بجروح أو الوقوع ضحية للمعاملة السيئة أو للاغتصاب. كما أن بمقدور بعض الجماعات المسلحة ممارسة الضغط على السكان كي يساندوها في صراعها بالمساهمة في تمويلها أو إخفاء المقاتلين والأسلحة أو باستخدامهم كدروع بشرية.

وإمكانيات الاستمرار في العيش في المدينة إمكانيات تختلف عما هي عليه في الأرياف, ولكنها ليست بالضرورة أكثر محدودية. فقد يكون من الصعب على السكان التزود بالمياه والغذاء والطاقة في إحدى المدن, بسبب الندرة أو ارتفاع الأسعار أو اضطراب آليات السوق (في حين يتوفر السكان المتضررون في الأرياف على موارد أكثر وعلى إمكانية أكبر على التحرك بسهولة). وهذا يعني أن القطاع غير الرسمي متطور للغاية في المدينة ويساهم في إعادة توزيع الثروة. وتسمح المهن غير الدائمة المتعلقة بتوفير السلع أو الخدمات (بائعو السجائر, عمال التنظيف, الأشخاص الذين يعملون في دفع عربات اليد, وغيرهم) والسوق السوداء بحدوث تحويل للمال. هذا بينما قد لا يتمكن المزارع من ضمان البقاء دون مساعدة خلال المرحلة الهزيلة الذي تفصل بين موسمي حصاد. ويمكن لساكن المدينة أن يجد وسائل تتيح له التصرف لضمان البقاء.

وأخيراً, فقد تكون آليات الدعم المتبادل في المناطق الحضرية أدنى أداءً في مجاهل المدينة, لا سيما بالنسبة للمهاجرين من المشردين أو اللاجئين أو المهجرين, حتى وإن كان هذا التأكيد يحتاج إلى يثبت علمياً. وعلاوة على ذلك, فغالباً ما تكون بعض المجموعات الضعيفة من السكان, كالمسنين الذين يتكفل بهم مجتمعهم المحلي في القرية, معزولة في المدينة. فهم يعتمدون على شبكة من الشبكات الاجتماعية, كالزيارات التي يتلقونها في محل إقامتهم أو في د فع معاشات لهم. وحينما تنهار الأنظمة الإدارية وتفر عائلاتهم (وهو الخيار الذي يرفضون اللجوء إليه في الغالب), يبقون في انتظار الموت وهم في أشد حالات الفقر. 

  ما هي التحديات التي تعترض الجهات العاملة في المجال الإنساني في مدينة تشهد نزاعاً؟  

يواجه العاملون في المجال الإنساني ثلاثة أصناف من التحديات ضمن هذه السياقات التي تتميز بخطورة كبيرة, وهي: تحديد الأشخاص الذين يحتاجون إلى الحماية والمساعدة; تنفيذ البرامج الموجهة لفائدتهم وتوضيح القانون الإنساني الذي ترتكز عليه هذه الأنشطة.

وليس من السهل تحديد الأشخاص داخل مدينة من المدن من الذين حولهم نزاع مسلح أو حالة أخرى من حالات العنف إلى أناس ضعفاء. ولنأخذ على سبيل المثال حالة المشردين. فبالإمكان أن يكونوا مشتتين في كامل أرجاء المدينة. وقد يحدث أن يغيروا أماكن إقامتهم بطريقة متكررة (بسبب المعارك, تهديم الأكواخ التي يعيشون فيها, الانتماء إلى أقلية أو جماعة معارضة مطاردة من قبل السلطات). وهم لا يقومون دوماً بتسجيل أنفسهم للحصول على المساعدة, لا سيما حينما يجدون الملجأ لدى بعض الأقارب. ويودون أحياناً التواري داخل مجاهل المدينة لدواع أمنية أو للإفلات من عمليات الإبعاد القسري. وحاصل القول, فإن العثور عليهم وتحديدهم دون تعريضهم للخطر, والاقتصار على تقديم المساعدة لهم – في الوقت الذي يمكن فيه للمهاجرين لأسباب اقتصادية أن يكونوا كذلك في وضع ميؤوس منه دون استفادتهم من أية مساعدة- يطرح مشاكل هي في الوقت نفسه مشاكل عملية وأخلاقية. ويجعل عدم تجانس السكان في المناطق الحضرية عملية استهداف المستفيدين من المساعدة عملية حساسة, مع كل الأخطار التي يمكن أن تطرحها من ناحية المحافظة على النظام خلال توزيع الإغاثة. 

وتنفيذ البرامج المعنية بالصحة والصرف الصحي والإمداد بالمياه أو الغذاء عملية معقدة. وقد جرى وصف العقبات التي يتعين أخذها بعين الاعتبار في     الوثيقة التي عرضت على المؤتمر الدولي الثلاثين للصليب الأحمر والهلال الأحمر (والتي أعدها بشكل مشترك الاتحاد الدولي واللجنة الدولية للصليب الأحمر): تتميز الهياكل الأساسية الضرورية لحياة السكان, في المناطق الحضرية (المستشفيات, محطات معالجة المياه) بتعقيدها, وفي بعض الأحيان, يتطلب إصلاح الأضرار التي تسببت فيها المعارك تقنية عالية. ويتعين القيام بهذا الإصلاح بصورة عاجلة, دون الحصول بالضرورة على كل المعلومات المفيدة, مع إدراك أن الأخطاء قد تعرض حياة الآلاف أو عشرات الآلاف من الأشخاص للخطر. وتمثل صعوبة العثور على أخصائيين مستعدين لتشغيل الخدمات والأجهزة التي توفر الإمداد بالسلع الأساسية, بعد القيام بإصلاحها, انشغالاً إضافياً. وأخيراً, فليس من السهل إدارة اللوجستيات الضخمة التي يتعين إقامتها لبعض عمليات توزيع الإغاثة (حتى وإن كانت الميزة المتاحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى المستودعات التي تكون, في الوقت نفسه, متشتتة في الأرياف).      
©ICRC/A. Dalziel/iq-e-00455 
   
بغداد: صورة لهجوم بالقنابل 
       
ويكمن السيناريو المزعج الذي يشغل بال السلطات الصحية في انتشار الأمراض المعدية في المناطق الحضرية. وقد تشجع أزمة من الأزمات الصحية الكبرى كانتشار وباء من الأوبئة الشاملة, بصرف النظر عن تأثيرها على بقاء السكان, احتدام النزاع في المدينة التي تعيش حالة الحرب. ومن المحتمل أن تؤدي إلى وصم جماعات من المرجح أن تصبح أكباش فداء (وك مثال على ذلك, الأجانب المرتبطون بالمكان الذي انتشر منه المرض). وقد تسمح بمراقبة السكان عن طريق إجراءات الطوارئ التي تفرضها الحالة الصحية (كالوضع تحت الحجر الصحي على سبيل المثال). فكيف لا يخشى في مثل هذه الحالات من إلحاق الضرر بحقوق الشخص, وعند الاقتضاء الإضرار بالقانون الدولي الإنساني؟ 

  ما هي الأجوبة والسبل المرتادة للرد على هذه التحديات؟  

هنالك أفكار تجري بلورتها داخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإعادة الاعتبار للقانون الإنساني عندما تصيب النزاعات المدن بأضرار, وإيجاد الوسائل الكفيلة بمنع التجند الطوعي أو التجنيد القسري للشبان في الجماعات المسلحة وتحسين نوعية برامج المساعدة.

أولاً, لقد شرعت الشعبة القانونية للجنة الدولية للصليب الأحمر في مشاورات الخبراء بشأن موضوع " المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية " في إطار أحد النزاعات المسلحة (أي عندما يكون القانون الدولي الإنساني سارياً). وينبغي على هذه الدراسة أن توضح الحدود الفاصلة بين المدنيين والمقاتلين وما يمكن اعتباره مشاركة مباشرة لأحد المدنيين في الأعمال العدائية. وهي تقوم أيضاً على العواقب التي تنتظر هذا الأخير نتيجة قيامه بمثل هذه المشاركة. فعلى سبيل المثال, هل يكون فقد الحصانة المستحقة للمدنيين ضد الهجمات لدى مشاركتهم المباشرة في الأعمال العدائية فقداً مؤقتاً أم دائماً؟ وستكون النتائج المستخلصة من هذه الدراسة مهمة بالنسبة للقانون الإنساني في المناطق الحضرية حيث, كما سبق أن رأينا, يختلط المدنيون والمقاتلون عن قرب بسبب تركيبة الأماكن وأحيانا بسبب رغبتهم في أن يكون الأمر على هذا المنوال.

وتتخوف اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضاً من العواقب الإنسانية الناجمة في النزاعات المسلحة بسبب استخدام الأسلحة التي تنشر الذخائر العنقودية (القذائف الصغيرة) على مساحات واسعة, لا سيما إذا جرى إسقاطها فوق مناطق مأهولة بالسكان, كالمجالات الحضرية مثلاً. وهكذا ساهمت اللجنة في مفاوضات وفي اعتماد اتفاقية الذخائر العنقودية في أيار/مايو 2008, وهي اتفاق تاريخي يتضمن العديد من المحظورات, ومن بينها حظر استعمال هذه الأسلحة.

وفي المقام التالي, وبغية منع تجنيد الشباب الذين ت قل أعمارهم عن 18 سنة في الجماعات المسلحة, تعمل الوحدة المكلفة بالتعليم والسلوك التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر على تحليل العوامل الفردية والبيئية التي تحرض الأطفال والمراهقين على الالتحاق بمثل هذه الهياكل, سواء أكان ذلك على أساس طوعي أو تحت الإكراه. ويبين هذا البحث بشأن " الأطفال المعرضين للخطر " أن هؤلاء الأطفال, وبعيداً عن أن يكونوا ضحايا ضعفاء ومستسلمين, هم أطراف مبدعة وقادرة على التكيف بسهولة وتسعى إلى حماية نفسها وتحسين نوعية الحياة التي تعيشها. وهو يحدد أيضاً الحاجة إلى نهج شامل يجمع بين التحرك العاجل والتنمية ومكافحة الإفلات من العقاب حتى يتاح لهؤلاء الأطفال بلوغ الأهداف التي ينشدونها بوسائل أخرى. وينطوي هذا التحليل على فائدة كبيرة ليس فقط بالنسبة للمدن التي تأثرت بنزاع من النزاعات المسلحة, ولكن أيضاً بالنسبة للمدن الواقعة في بلدان تنعم بالسلام حيث تتألف العصابات المسلحة, التي تشكل عاملاً من عوامل انعدام الأمن, من المراهقين.

وأخيراً, تفكر شعبة المساعدة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر, لا سيما الموظفون المسؤولون عن الأمن الاقتصادي, في الوسائل الأكثر ملاءمة لضمان الأمن الاقتصادي للأفراد والمجتمعات المحلية في المناطق الحضرية. ومن جهة أخرى, فالأمر يتعلق بتحليل التجارب السابقة, مثل: توزيع الغذاء; دعم المخابز; وكذلك دعم المطابخ الجماعية أو المطاعم; تسليم قسائم شراء في محلات معينة سابقاً; القيام بتدابير تهدف إلى إعادة الصلات التجارية إلى سابق عهدها أو إحياء الحرف اليدوية. ومن جهة أخرى, فإنه يتعين اختبار تدابير جديدة كتوزيع الأموال في صورة نقدية; تدعيم الأجور لمدة بضعة شهور لصالح الأقليات التي تعيش أوضاعاً صعبة أو لصالح العاطلين عن العمل, أو أيضاً القيام بإجراءات في المجال الزراعي لدعم إنتاج الغذاء من قبل سكان المدن (الحدائق البلدية).

ومع ذلك, فمن المناسب التزام الواقعية, إذ ليس في متناول الجهات العاملة في المجال الإنساني بعث النشاط الاقتصادي لإحدى المدن كي تتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء. وقد تكون برامج المساعدة غير كافية. فلا يمكن للإنتاج الزراعي للمدينة أن يوفر إلا كميات تغذوية لا أهمية لها لمجموع سكانها. وتكون لتدابير الحماية (التدخل لإنعاش مدينة خنقها الحصار على سبيل المثال) دون غيرها القدرة على إحداث مثل هذا الأثر.

ويتعين أن تؤخذ العوامل الاقتصادية والتغذوية والبيئية بعين الاعتبار في اختيار الوسائل الكفيلة بضمان الأمن الاقتصادي لأشد الناس فقراً من الذين أصابهم العنف المسلح. وغالباً ما يتعلق الأمر, كما سبق أن رأينا, بدعم النظم الاجتماعية والصحية ونظم الصرف الصحي والإمداد بالمياه التي تتميز بقصورها, والحرص, متى تم إصلاح هذه النظم, على استمرارها في العمل حتى في حال تحرك الخطوط الأمامية للمواجهة عن مواقعها. ويتعلق الأمر أيضاً بتوجيه الاهتمام للعواقب الناجمة عن هذه الخيارات على مجالات نشاط أخرى. فعلى سبيل المثال, فإن تربية الماشية في المناطق الحضرية (وهي مصدر للبروتين وللدخل) تساهم في ظروف معينة في انتقال الأمراض. ويكون قد اتضح للقارئ الآن أن هذه المشاريع تتطلب دراسات جادة مسبقة وتأهيلاً جيداً يتوفر عليه الأشخاص الذين يقومون بتنفيذها.

  ما هو الدور الذي تؤديه الأطراف الفاعلة في المجال الإنساني داخل المدن التي لا يكون فيها العنف الحضري ناجماً عن نزاع مسلح؟  

تواجه بعض المدن من بلدان تنعم بالسلم عنفاً متوطناً, حيث تفرض فيها جماعات مسلحة قانونها. وحيث أن هذه الجماعات لا تطمح مبدئياً للوصول إلى حكم الدولة, فهي لا تهاجم أو نادراً ما تهاجم السلطات; بل أنها تعمل أحياناً عن طريق الفساد على تطوير بعض من درجات التواطؤ مع وكلاء السلطة حتى تكون بمنأى عن المضايقات. وفي المقابل, تدافع هذه الجماعات المسلحة عن نفسها ضد جماعات أخرى وأحياناً ضد الشرطة وذلك للمحافظة على السيطرة على أحد الأقاليم الذي تطور انطلاقاً منه اتجاراً غير مشروع (في المخدرات, الأسلحة, النفط, التهريب, البشر) يسمح لها بالعيش بصورة أفضل. وخلاصة القول, فهدفها الأول يتمثل في التحكم في الموارد والتجارة الخاصة بها لأغراض الحصول على الربح. أما ما يتعلق بمعرفة ما إذا كان لجوؤها إلى العنف يتضمن بعداً عقائدياُ أو سياسياً, فإنه من الصعب إثبات ذلك. فأين يقع الحد الفاصل بين ما هو أعمال إجرامية وما هو ممارسة للسياسة, وذلك في الحالات التي يتزعزع فيها كيان الدولة من خلال إنشاء مجالات تسود فيها الفوضى, ويمكن للجريمة أن تزدهر فيها بحرية, خصوصاً لما تطرح الجماعة المسلحة التي تتحكم في أحد الأقاليم دعوى الدفاع عن الهوية؟

وتكون العواقب الإنسانية الناجمة عن العنف الحضري الدائر بين العصابات أو بين المهربين والشرطة في بعض مدن البلدان التي تنعم بالسلم (مع أخذها كمثال من الأمثلة) مشابهة إلى حد كبير لتلك الناجمة عن نزاع مسلح, وهي: القتل, المعاملة السيئة أو التعذيب, التشريد المؤقت أو الأبدي للسكان بسبب المعارك أو عمليات الطرد, الصدمات النفسية التي يتعرض لها بعض الأطفال, الاستخدام المفرط للقوة أثناء القمع أو الاحتجاز. وبالإضافة إلى ذلك, يمكن أن تكون الأسلحة المستخدمة (البنادق الهجومية, الرشاشات, الألغام المضادة للدبابات, المسدسات العسكرية, القنابل اليدوية وغيرها) هي نفس الأسلحة التي بحوزة المقاتلين أثناء النزاعات المسلحة. وأخيراً, يسيطر المهربون المشكلون من عصابات مسلحة في بعض الأحيان على مساحات جغرافية محددة حيث تتواجد نقاط لبيع المواد غير المشروعة (كالكوكايين على سبيل المثال).

واللجنة الدولية للصليب الأحمر مدعوة اليوم للإجابة عن الكيفية التي ستتأقلم بها مع تطور العنف في المناطق الحضرية. فمن المؤكد أن المجتمع المدني أكثر تطوراً في المدن منه في الأرياف وأن الكثير من الجمعيات المختصة (من بينها جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في حالة وجود فروع لها في الأحياء المعرضة للخطر) تبذل الآن قصارى جهدها لإيقاف سيل العنف ومعالجة الآثار الناجمة عنه والدفاع عن حقوق الأفراد. وقد يمكن بناءً على ذلك الاعتقاد بأن لا طائل من أي تدخل تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وبالمقابل, فغالباً ما يكون سكان الأحياء التي وقع فيها العنف عرضة لأعلى درجات الوصم , الأمر الذي لا يجعل من تطوير الخدمات الصحية أو المدارس في الغالب أولوية من الأولويات بالنسبة إلى السلطات (زد على ذلك أن العنف في قسم منه هو ثمرة هذا الوصم مثله في ذلك مثل غياب الآفاق التعليمية والوظيفية والاجتماعية والاقتصادية). والنظام القضائي يعاني خللاً في أداء وظائفه ويشجع على الإفلات من االعقاب الذي يبيح كل أشكال التعسف, والسجون في حالة يرثى لها. ويتعين اجتياز الخطوط الأمامية الحقيقية للجبهة لإجلاء جرحى المواجهات بين العصابات المسلحة. وأخيراً, فبعض قوات الشرطة تقوم أحياناً باستخدام القوة بشكل مفرط أثناء عمليات القمع.

وفي المناطق الحضرية وخارج إطار النزاعات المسلحة (أي تحت عتبة تطبيق القانون الدولي الإنساني), فقد اختارت اللجنة الدولية للصليب الأح مر بناءً على ذلك الاهتمام بشكل رئيسي بالحالات المتعلقة بالمواجهات الدائرة بين الجماعات المسلحة المنظمة والتي تكون لها آثار هامة على الصعيد الإنساني. وقد أجريت بعض التجارب الرائدة لا سيما في أمريكا اللاتينية. وهي تثير بعض الأسئلة من قبيل: ما هي توقعات واحتياجات الأشخاص المعرضين للخطر؟ هل استقلال اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحيادها يشكلان قيمة مضافة في مثل هذه الحالات؟ هل تم تكييف هذه الأدوات المعدة لسياق النزاعات المسلحة لتستخدم في سياقات تندرج فيها الاحتياجات في مجال التنمية بنفس القدر الذي تندرج به في مجال الطوارئ؟ كيف يمكن تطوير نهج كلي في إطار التواصل مع الأطراف الفاعلة في المجال الإنساني (الجمعيات الوطنية, رابطات المحامين أو الأطباء), مع الاستفادة من الطبيعة النوعية للجنة الدولية للصليب الأحمر؟

وستكون مقاومة الإغراء الذي يدفع إلى القيام بتمييز بين عنف سياسي " شريف " وعنف اجتماعي " دنيء " تحدياً يواجه جميع الجهات العاملة في المجال الإنساني. فبالنسبة للأشخاص الذين قتلوا أو جرحوا أو تعرضوا للمضايقات, تكون المعاناة أو النتيجة واحدة لا تتغير. وعلينا ألا ننسى كذلك أن العديد من النزاعات المسلحة هي مواجهات للتحكم في الموارد لأغراض الربح الفردي. أليست هذه النزاعات في أغلب الأحيان امتداداً للأعمال الإجرامية المتوطنة التي قد تسترجع مواقعها بمجرد عودة السلم؟ وأخيراً, فهنالك ما يدعو للتساؤل عما إذا كان العنف الاجتماعي الجماعي, عندما يضاف إلى التفاوت الاقتصادي المتنامي وإلى وصم بعض المجموعات, لا يمتلك بعداً سياسياً نابعاً من أصله, حتى في حال غياب برنامج سياسي لفاعليه.

  خلاصة  

عكف المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر الذي انعقد في جنيف في تشرين الثاني/نوفمبر 2007 على دراسة ظاهرة العنف الحضري وتطورات عالمية أخرى يعرفها مجتمعنا من شأنها أن تزيد من حدته, وهي: تنامي الهجرة الدولية, أخطار الأوبئة الشاملة, تدهور البيئة والاحتباس الحراري. واقتناعاً منه بأن العنف الحضري يمثل تحدياً واسع المدى, فقد دعا المؤتمر إلى تعزيز التعاون الميداني وإقامة شراكات بين أعضائه وبين المؤسسات الأخرى ووسائط الإعلام والقطاع الخاص. فهل يكون إعلان "     معا من أجل الإنسانية " الصادر عن المؤتمر (مرفق بقراره 1), والذي يتضمن أموراً من بينها منع العنف والحد منه ومكافحة التمييز, متبوعاً بنتائج؟ إنها المسؤولية التي تقع على عاتقنا جميعا.  
  انظر موضوعات أخرى للمؤلفة:     الأرض: أحد المخاطر على العاملين في الحقل الإنساني إبّان النزاعات المسلحة