السودان: قهْر الصعاب، وحصْد البطولات

08 شباط/فبراير 2019
السودان: قهْر الصعاب، وحصْد البطولات
اللاعب مروان يمارس تمارين الإحماء قبل بدء المواجهة بين فريقي ليبيا والسودان لكرة السلة المقامة في نادي الربيع بأم درمان في السودان. CC BY-NC-ND / ICRC / Yousif Mohammed Wasaw

هنا أجواء ملتهبة وحشود متعاظمة تفيض حماسة. احتشد المشجعون المفعمون بالحماسة حول المُنشأة التي بُنيت لاستضافة المباراة التي طال انتظارها، بين الفريق السوداني لكرة السلة على الكراسي المتحركة ونظيره الليبي. وهؤلاء المشجعون ينتمون إلى فئات ديمغرافية متنوعة؛ فهناك أطفال، وشباب يافعون، وبالغون؛ أصحاء بدنيًا ومعاقون، ولكنّ جميعهم تغمرهم أجواء الإثارة والشغف بالمبارة التي على وشك أن تنطلق صافرة بدايتها.

فهم يتحرّقون شوقًا لمشاهدة منافسة في رياضة لم يألفها أهل السودان. وتقام فعاليات هذه الرياضة بدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية)، وتمثل عنصرًا مهمًا، وإن كان متواضعًا، في عملية ضمان وتعزيز الإدماج الاجتماعي لذوي الإعاقة في البلاد.

تقام المباراة في مركز شباب الربيع بأم درمان ثاني أكبر مدن السودان، التي تقع على الضفاف الغربية لنهر النيل. وتحظى المدينة بمكانة تاريخية مرموقة في تاريخ السودان المعاصر، وها هي الآن قد نالت شرف استضافة أول منافسة دولية مُنظمة في كرة السلة على الكراسي المتحركة في السودان.

لاعبو الفريقين السوداني والليبي لكرة السلة على الكراسي المتحركة وهم يتبادلون التحية قبل بداية المباراة. CC BY-NC-ND / ICRC / Yousif Mohammed Wasaw

لاعبو الفريقين السوداني والليبي لكرة السلة على الكراسي المتحركة وهم يتبادلون التحية قبل بداية المباراة. CC BY-NC-ND / ICRC / Yousif Mohammed Wasaw

ومع نزول لاعبي الفريقين أرض الملعب، اشتعلت حماسة الجماهير، وانطلقت عاصفة من التصفيق الحاد تحيي الفريقين والموظفين. وما أن قُدّم الفريق الليبي حتى صفقت الجماهير ترحيبًا به، في حين استمد الفريق السوداني دعمه من وجوده في كنف وطنه.

كثير من الجماهير يتطلعون بلهفة إلى مشاهدة جميع لاعبي الفريق السوداني وهم يصولون ويجولون في الملعب، غير أن لاعبًا واحدًا من بينهم يحظى بمكانة خاصة. ذلك أن «مروان» ليس لاعبًا عاديًا، إنه قائد الفريق ومصدر طاقته المحفزة من عدة جوانب. وما أن انطلقت الصافرة أخيرًا معلنة بدء المباراة، بعد الانتهاء من جميع الإجراءات الرسمية السابقة للمباراة، حتى هبّ «مروان» يقود أفراد فريقه في الملعب ويلهمهم في مواجهتهم الشرسة أمام الخصم الليبي العنيد. لكن المباراة الميمونة انتهت وقد مُني الفريق السوداني بخسارة كبيرة أمام شقيقه الليبي، الذي أبدى جسارة ومهارة لا يُستهان بهما، فكانت النتيجة 18-77 لصالح الفريق الليبي.

مروان (بقميصه رقم 23) ينتظر تمريرة قادمة من زميله في الفريق. CC BY-NC-ND / ICRC / Yousif Mohammed Wasaw

وبعد انتهاء مراسم الاحتفال، وتبادل المزاح والتحايا، وإسدال الستار على هذه الفعالية، التقينا «مروان» بعد بضعة أيام ليشاركنا قصته. بدأ يرويها منذ ما يتذكره من أيام طفولته حتى حياته الحالية كلاعب كرة سلة على الكراسي المتحركة، بالإضافة إلى الأشياء الأخرى التي يمارسها.

بدأ حديثه قائلًا: "لم أولد مُعاقًا". ترقرقت الدموع في عينيه وما لبثت أن انحدرت على وجنتيه، وهو يتقلب على جمر ذكريات طفولته. يتابع «مروان» وهو يمسح دموعه: "فقد كنت صحيحًا طيلة السنوات الخمس الأولى من حياتي". جال بناظريه في المكان كأنما يحاول استيعاب المحيط من حوله، وبينما هو كذلك، لمحنا في عينيه بريق فتوة وحيوية، وطاقة جامحة بين جنبيه، على الرغم من إعاقته في ساقه اليمنى.

تساءلنا، فما الذي سبب إعاقتك؟ أطلق زفرة حارة قبل أن يسترخي في مجلسه ليبدأ القصة.

يقول: "السبب خطأ طبي؛ أُعطيت حُقنة في ساقي تسببت لاحقًا في حدوث إعاقتي".

سألناه إن كان يتذكر المرض الذي كان يعانيه بالضبط، فهز رأسه نافيًا. وأردف قائلًا: "لا أتذكر المرض الذي ألمّ بي وقتها، كل ما أتذكره هو أنني ظللت بعد هذه الحقنة القاتلة طريح الفراش لسنوات، وأعتمد على الآخرين لمساعدتي في فعل أبسط الأشياء".

ظل «مروان» على هذه الحال لسنوات، إلى أن وفرت له الهيئة العامة للأجهزة التعويضية للمعاقين، المدعومة من اللجنة الدولية، طرفًا اصطناعيًّا.

من جانبه أفاد السيد «عماد الدبعي»، مدير مشروع إعادة التأهيل البدني باللجنة الدولية قائلًا: "بالتعاون مع شركائنا في الهيئة العامة للأجهزة التعويضية للمعاقين بالخرطوم ساعدنا «مروان» لكي يستعيد جزءًا كبيرًا من قدرته البدنية عبر توفير ساق اصطناعية له وتدريبه على استخدامها".

سألناه إذا كان يتذكر كيف كانت حياته قبل تركيب الطرف الاصطناعي.

أجاب مؤكدًا: "بالطبع. قبل أن أخضع لإعادة التأهيل، كنت صبيًا بلا أصدقاء، ولم يكن أحد يتواصل معي سوى أقاربي. ولكن بعد أن رُكبت لي الساق الاصطناعية، صرت أتفاعل مع أقراني، وشجعني أبي (الذي كان رياضيًا يتبع نادي المريخ، وهو نادي كرة قدم عريق مقرّه أم درمان) على تعلم السباحة".

توقف «مروان» لبرهة، وكأن فيضًا من ذكريات طفولته الجميلة قد غمره. ثم تابع: "وقعت في حب هذه الرياضة وصرت مدمنًا لها، وقد ساعدتني على بناء جسمي". ولا أدل على صدق مشاعره من تلك الابتسامة العريضة التي أضاءت وجهه الوسيم.

ولم تتوقف طموحات «مروان» عند إجادة السباحة وحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى تعلم مهارات أخرى. فمثلًا، عندما بدأ استيراد الدراجات النارية الأجرة (يُطق عليها اسم التوك توك في الخرطوم) في السودان، رأى «مروان» أن تعلم قيادة هذه المركبة سيحقق له النفع الكثير. يقول «مروان»: "لم ألبث إلا قليلًا حتى تعلمت كيفية قيادتها، بل وإصلاحها كذلك. واليوم أنا أساعد الآخرين على تعلم هذه المهارات دون مقابل، حتى يمكنهم توظيف مهاراتهم تلك في تحصيل دخل".

بتركيز شديد، يقوم مروان بتصليح توكتوك معطل. CC BY-NC-ND / ICRC / Yousif Mohammed Wasaw

وإلى جانب كونه قائد أول فريق منظم لكرة السلة على الكراسي المتحركة في السودان، يتميز «مروان» عن أقرانه بحصده كذلك لقب البطولة الوطنية لمصارعة الأيدي لفئتي الأصحاء والمعاقين. وليس هذا بالإنجاز الذي يُستهان به، وبسببه يكنّ أقران «مروان» له احترامًا بالغًا.

لقد شكّلت مسيرة «مروان» الحياتية إلى الآن مصدر إلهام لكثيرين من ذوي الإعاقة،
وحفّزتهم للنهوض والمضي قُدمًا، والكفاح من أجل الاستمتاع بحياتهم إلى أقصى حدّ. فقصته ومثابرته تشجعانهم على إثبات أن بوسعهم تقديم إسهامات فعّالة في المجتمع، وفي اقتصاد مجتمعاتهم المحلية على تنوعها. وأمثال «مروان» يجسدون هذا النموذج الفذّ: فرد منتج في المجتمع، يعيش مستقلًا، ويولّد دخلًا لنفسه، ويساعد الآخرين عن طريق مبادراته التطوّعية.

واختتم السيد «عماد» قائلًا: "لقد تفوق «مروان» على نفسه وأثبت أن القدرة تولد من رحم الإعاقة، وهو مثال حي يجسد القدرة، والمثابرة، والشجاعة".