الصور كوثيقة للحب والخوف
بدأ السيد فابريزيو كاربوني مشواره مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر كمتدرب في القسم القانوني، وبعد تعيينه قاده شغفه بالعمل الإنساني والقانون الدولي الإنساني إلى شغل مناصب عدة داخل المنظمة حتى تبوأ قبل ما يزيد عن عام منصب مدير العمليات لمنطقة الشرق الأوسط والأدنى.
رائحة حلب
عندما يتعلق الأمر بسورية فهو يصبح أمرًا شخصيًا بالنسبة لي. فهذا البلد كان واحدة من محطات عدة في رحلة قمت بها عندما كنت طالبًا. كنّا مجموعة في زيارة إلى القاهرة وسيناء والأردن واسطنبول وإسرائيل والأراضي المحتلة. وكانت حلب واحدة من المدن التي زرناها. كان من المفترض أن نقضي فيها يومين ولكننا مكثنا أسبوعًا.
والآن بعد 20 عامًا أعود لرؤيتها. حلب ليست مجرد مدينة أخرى مدمرة ولكنها تحمل تاريخًا للإنسانية كلها. عندما وصلنا السوق ما وجدته كان مذهلًا. سوق التوابل كانت مدمرة تماما ولكننا شممنا في الهواء رائحة تلك التوابل حاضرة بقوة. لمئات السنوات خزّن التجار التوابل في السوق فغلبت رائحتها رائحة النزاع والدمار.
إن حجم الدمار الذي رأيته في سورية بشكل عام وفي حلب بشكل خاص جعلني أفكر في احتمال أن تكون أوروبا قد بدت بالشكل نفسه بعد الحرب العالمية الثانية. فتدمير مدينة كحلب لا يقل أهمية عن تدمير مدن مثل روما وباريس بالنسبة لتاريخ البشرية.
التقطت هذه الصورة في السوق. اخترت أن ألتقطها من هذه الزاوية لأن الضوء البعيد يمثل الأمل في نهاية هذه الطريق المظلمة. لن أنسى زيارتي تلك ما حييت.
جمال عدن
التقطت هذه الصورة خلال رحلتي من جيبوتي إلى عدن وهي رحلة رائعة بمناظرها وعدن مدينة جميلة جدًا. خلال عملنا مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر نرى من العالم النقيضين: الجمال والدمار. فأتساءل كيف يجتمع هذا الجمال مع هذا العنف في مكان واحد؟
ما أجده مشتركًا كذلك في أماكن عملنا أن إحساسنا بالألم واحد مهما اختلفت لغاتنا أو طرقنا في التعبير عنه. هو الألم نفسه من الصين إلى مصر، يتكرر بالقدر نفسه مع كل شخص تفقده، مهما كان عدد من فقدت.
كأحد موظفي الصليب الأحمر تعلمت ألا يصيبني تبلد في المشاعر بسبب ما نتعرض له من قصص مؤلمة. في عملنا تصلنا الكثير من الرسائل والطلبات التي يمكن أن تبدو مكررة ومتشابهة، وكثيرًا ما يفوق حجم الطلبات قدرتنا على تلبيتها، ولكن بدلا من مواجهتها بالرفض علينا أن نواجهها بالاحترام والتقدير، احترام مشاعر الألم وتقدير مشاعر الخوف عند كل شخص.
عادة تجذبني الصور أو المشاهد التي تحتوي أشخاصًا ولكن جمال هذا المنظر كان قويًا كفاية لدفعي لالتقاط الصورة.
قسوة ميانمار
كنت في ميانمار قبل حدوث أزمة إقليم راخين والتي مثلت واحدة من أصعب الأماكن التي عملت بها في حياتي. عادة لا أواجه أية صعوبة في النوم، ولكن مع بداية الأزمة كنت كثيرًا ما أستيقظ في منتصف الليل لكثرة الضغط والتفكير في كل الاحتمالات التي قد تؤول إليها. كنت أفكر في الدور المتوقع منّا كمنظمة إنسانية في هذه الأزمة. لم أختبر مثل هذا الشعور من قبل.
اضطرت الأزمة 700 ألف شخص إلى ترك بيوتهم وقراهم، فألقت علينا السلطات مسؤولية هؤلاء الأشخاص. أول سؤال خطرعلى بالي في وقتها كان هل نضطلع بهذه المهمة أم لا؟ فهي مهمة صعبة جدًا، وإذا قررنا تحملها فلا سبيل سوى إلى تحقيق الهدف منها وهو أمر صعب لأن المناخ السياسي يمثل تحديًا كبيرًا. وما زاد من صعوبة الوضع كذلك أن منطقة الأزمة في راخين تبعد عن مكتبنا. إذ كان لنا مكتب واحد فقط يعمل فيه بعض وعشرة موظفين عليهم مواجهة احتياجات النازحين من القرى المحترقة.
ولكنني رأيت أن تلك الظروف الصعبة هي الوقت الأفضل ليتألق عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتبرز جهودها
رغم قلة عدد الموظفين إلا أن قدرتهم الاستثنائية على استغلال الموارد المتاحة هو ما حدد مصير تلك اللحظة.
كانت هذه التجربة من أصعب ما مررت به في حياتي المهنية لكثرة الضغوط، ولكنها كانت تجربة مجزية بسبب موقف الموظفين الذين ذكّروني برسالتي وهدفي من العمل في هذه المنظمة، وهو خدمة الإنسانية وخصوصًا في أصعب الظروف.
حقيقتنا في الهول
أرى في الهول ملجأ للأشخاص بعيدا عن ميدان المعركة. لقد قضى هؤلاء الأشخاص سنوات من الخوف والجوع والرعب وانعدام الرعاية الصحية، وما زاد الطين بلة أن معظمهم من المنتمين للتنظيمات المسلحة مما جعلهم في نظر العالم أشخاصًا "سيئين" أو "غير جديرين بالمساعدة".
ولكن دورنا في الصليب الأحمر يحتم علينا في هذه المواقف أن نؤكد على مبادئنا من الحياد وعدم الانحياز. الهول يمثل اختبارًا لهذه المبادئ. فبينما ينظر العالم كله إلى هؤلاء نظرة قاسية علينا أن ننظر إليهم نظرة إنسانية. أن نراهم كبشر فقط. أن نراهم كآباء وأمهات وأطفال.
الصورة تمثل موقفًا صعبًا وإن كانت لا تظهره بوضوح. فقد تزاحم القادمون إلى المخيم، وكان المتطوعون يبذلون ما في وسعهم لتوفير الرعاية للوافدين. ولا أنسى منظر المصابين في المكان. كان هناك الكثير منهم.
بينما يرى العالم الهول وساكنيه كمنطقة رمادية غير واضحة أقول أن الأمر يبدو لنا في غاية الوضوح من منظور القانون الدولي الإنساني الذي يجب تحقيقه وتطبيقه بشكل كامل وقوي. فهؤلاء أشخاص غير مشاركين في أي قتال، والقانون الدولي الإنساني ينص على حقهم في الحياة الكريمة إن لم يكونوا جزءا من قتال. من أذنب يستحق العقاب ومن لم يذنب يستحق معاملة مختلفة.
يسهل التنظير وإصدار الأحكام ويسهل التظاهر بالإلتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني إن لم تعش حربًا، ولكن عند حدوثها ستظهر حقيقة التزامك بالحقوق الإنسانية الأساسية.
في مخيم الهول يتواجد أكثر من 74 ألف شخص واستجابة العالم لا تتوافق مع احتياجاتهم الهائلة. ما يهمني بشكل كبير هو مصير هؤلاء الأشخاص المتروكين في هذا المكان الحار جدًا صيفًا والبارد جدًا شتاءً. أعلم أن الأمر معقد بالنسبة للدول بسبب الاعتبارات السياسية والأمنية، ولكن لا يوجد أمامنا خيار آخر سوى التعامل بإنسانية.
دمية عين الحلوة
لبنان هو مكان تجربتي الأولى كرئيس لبعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وقد كان الموظفون هناك رائعين جدًا وكان العمل معهم تجربة مجزية إلى أقصى حد.
التقطت هذه الصورة في مخيم عين الحلوة وهو واحد من الأماكن التي لا تسمع كثيرًا عنها. في عين الحلوة يسكن مئات الآلاف من الفلسطينيين. قاطنو المخيم يعيشون منذ 60 عاما في مرحلة انتقالية، فلا هم قادرون على العودة إلى ديارهم ولا هم قادرون على الاندماج في لبنان بالشكل المناسب.
خلال زيارتي لعين الحلوة وجدت دمية لشخصية "بارني" الشهيرة. لفتت هذه الدمية انتباهي لأن ابني يملك واحدة مثلها، وهو أمر كان صادما بالنسبة لي عندما تخيلت أن طفلا يشبه ابني ويمتلك الدمية نفسها قد مر بهذه الظروف الصعبة وتساءلت أين ذهب؟ وإلى أين آل مصير حياته؟
لقطة حُفرت في ذهني
في بعثتي الثانية في أفغانستان كنا نوصل رسائل الصليب الأحمر من المحتجزين إلى أهاليهم في قرىً بعيدة جدا يعيش سكانها في أكواخ من الطين. كنت قد التقطت صورًأ كثيرة للحظة تلقي تلك الأسر للرسائل، ولكن للأسف تعرض حاسوبي المحمول للسرقة خلال رحلة قطار من باريس إلى جنيف.
حوى الحاسوب صورة لا أنساها لأسرة تستقبل أنباء من ابنها بعد أن كانت تظن أنه ميت. كانت تعبيرات وجوههم لا تقدر بثمن عندما وصلهم خبر أن ابنهم محتجز وهولا يزال على قيد الحياة. كانت تلك لحظة مميزة جدا وأحزن كثيرا لضياع الصورة التي التقطتها لتلك اللحظة. ولكنها لا تزال مطبوعة في ذاكرتي.